مِحْنَةُ الإِمَامِ الهَادِي (ع) مَعَ المُتَوَكِّلِ النَاصِبِيِّ.

عَلِيٌّ رِضَا:      السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.       كَيْفَ تَعَامَلَ الإمَامُ عَلِيٌّ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَعَ المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيِّ المَعْرُوفِ بِالنَّصْبِ وَالبُغْضِ لِأَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)؟

: اللجنة العلمية

     الأَخُ عَلِيٌّ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     عُرِفَ المُتَوَكِّلُ بِبُغْضِهِ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَشِيعَتِهِ، حَتَّى أَنَّهُ فِي سَنَةِ 236 ه أَمَرَ بِهَدْمِ قَبْرِ الإِمَامِ الحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَهَدْمِ مَا حَوْلَهُ مِنَ الدُّورِ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ زِيَارَتِهِ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَةِ مَنْ يَتَمَرَّدُ عَلَى المَنْعِ. [كَمَا فِي تَارِيخِ الطَّبَرِي 7: 365].

     قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي "تَارِيخِ الخُلَفَاءِ"، ص 347: وَكَانَ المُتَوَكِّلُ مَعْرُوفًا بِالتَّعَصُّبِ فَتَأَلَّمَ المُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ شَتْمَهُ عَلَى الحِيطَانِ وَالمَسَاجِدِ وَهَجَاهُ الشُّعَرَاءُ. فَمِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ:

     بِاللهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ *** قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومًا.

     فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ *** هَذَا لَعَمْرِي قَبْرُهُ مَهْدُومًا.

     أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا *** فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمًا.

     وَأَهَمُّ حَدَثٍ فِي زَمَنِ المُتَوَكِّلِ هُوَ إشْخَاصُ الإِمَامِ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنْ مَدِينَةِ جَدِّهِ المُصْطَفَى (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إِلَى مُعْتَقَلَاتِ سَامَرَّاءَ وَسُجُونِهَا.

     فَفِي سَنَةِ (234 ه) أَيْ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ سَيْطَرَتِهِ عَلَى كُرْسِيِّ الخِلَافَةِ أَمَرَ المُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ هَرْثَمَةَ بِالذَّهَابِ إِلَى المَدِينَةِ وَالشُّخُوصِ بِالإِمَامِ إِلَى سَامَرَّاءَ، وَكَانَتْ لِلإِمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَكَانَةٌ رَفِيعَةٌ بَيْنَ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلَمَّا هَمَّ يَحْيَى بِإِشْخَاصِهِ اضْطَرَبَتِ المَدِينَةُ وَضَجَّ أَهْلُهَا كَمَا يَنْقُلُ يَحْيَى نَفْسُهُ، حَيْثُ قَالَ :دَخَلْتُ المَدِينَةَ فَضَجَّ أَهْلُهَا ضَجِيجًا عَظِيمًا، مَا سَمِعَ النَّاسُ بِمِثْلِهِ خَوْفًا عَلَى الإِمَامِ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَقَامَتِ الدُّنْيَا عَلَى سَاقٍ، لِأَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ مُلَازِمًا المَسْجِدَ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَيْلٌ إِلَى الدُّنْيَا فَجَعَلْتُ أُسْكِتُهُمْ، وَأَحْلِفُ لَهُمْ إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ فِيهِ بِمَكْرُوهٍ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَتَّشْتُ مَنْزِلَهُ فَلَمْ أَجِدْ إِلَّا مَصَاحِفَ وَأَدْعِيَةً، وَكُتُبَ عِلْمٍ فَعَظُمَ فِي عَيْنِي. [تَذْكِرَةُ الخَوَاصِّ، سِبْطُ بْنُ الجَوْزِيِّ: 203].

     وَفِي سَامَرَّاءَ تَعَرَّضَ الإِمَامُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِأَشَدِّ حَالَاتِ التَّضْيِيقِ وَالتَّنْكِيلِ مِنَ المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيِّ، وَالَّتِي مِنْهَا هَذِهِ المُحَاوَلَةُ لِاغْتِيَالِهِ.

     فَقَدْ رُوِيَ :أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ فَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الكَاتِبُ وَنَحْنُ بِدَارِهِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فَجَرَى ذِكْرُ أَبِي الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ حَدَّثَنِي بِهِ أَبِي؟

     قَالَ: كُنَّا مَعَ المُنْتَصِرِ وَأَبِي كَاتَبَهُ فَدَخَلْنَا وَالمُتَوَكِّلُ عَلَى سَرِيرِهِ فَسَلَّمَ المُنْتَصِرُ وَوَقَفَ وَوَقَفْتُ خَلْفَهُ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ رَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ فَأَطَالَ القِيَامَ وَجَعَلَ يَرْفَعُ رِجْلًا وَيَضَعُ أُخْرَى وَهُوَ لَا يَأْذَنُ لَهُ فِي القُعُودِ، وَرَأَيْتُ وَجْهَهُ يَتَغَيَّرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَيَقُولُ لِلفَتْحِ بْنِ خَاقَانَ:

     هَذَا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ مَا تَقُولُ؟ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ القَوْلَ، وَالفَتْحُ يُسْكِتُهُ وَيَقُولُ: هُوَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَلَظَّى وَيَسْتَشِيطُ وَيَقُولُ: وَاللهِ لَأَقْتُلَنَّ هَذَا المُرَائِيَ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ يَدَّعِي الكَذِبَ وَيَطْعَنُ فِي دَوْلَتِي. ثُمَّ طَلَبَ أَرْبَعَةً مِنْ الخزرِ أَجْلَافًا وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ أَسْيَافًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَبَا الحَسَنِ إِذَا دَخَلَ وَقَالَ: وَاللهِ لَأُحَرِّقَنَّهُ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَأَنَا قَائِمٌ خَلْفَ المُنْتَصِرِ مِنْ وَرَاءِ السَّتْرِ، فَدَخَلَ أَبُو الحَسَنِ وَشَفَتَاهُ تَتَحَرَّكَانِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَلَا جَازِعٍ، فَلَمَّا رَآهُ المُتَوَكِّلُ رَمَى بِنَفْسِهِ عَنِ السَّرِيرِ إِلَيْهِ، وَانْكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَسَيْفُهُ شَقَّهُ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

     يَا سَيِّدِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، يَا خَيْرَ خَلْقِ اللهِ يَا ابْنَ عَمِّي يَا مَوْلَايَ يَا أَبَا الحَسَنِ. وَأَبُو الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: أُعِيذُكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا.

     فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا سَيِّدِي فِي هَذَا الوَقْتِ؟

     قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُكَ.

     قَالَ: كَذَبَ ابْنُ الفَاعِلَةِ.

     فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ يَا سَيِّدِي، يَا فَتْحُ، يَا عُبَيْدَ اللهِ، يَا مُنْتَصِرُ، شَيِّعُوا سَيِّدَكُمْ وَسَيِّدِي، فَلَمَّا بَصَرَ بِهِ الخزرُ خَرُّوا سُجَّدًا، فَدَعَاهُمُ المُتَوَكِّلُ وَقَالَ: لِمَ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ؟

     قَالُوا: شِدَّةُ هَيْبَتِهِ، وَرَأَيْنَا حَوْلَهُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَيْفٍ لَمْ نَقْدِرْ أَنْ نَتَأَمَّلْهُمْ، وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا مِنْ ذَلِكَ.

     فَقَالَ: يَا فَتْحُ هَذَا صَاحِبُكَ وَضَحِكَ فِي وَجْهِهِ.

     وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي بَيَّضَ وَجْهَهُ وَأَنَارَ حُجَّتَهُ. [الخَرَائِجُ وَالجَرَائِحُ 1: 417 - 419].

     وَلَمْ يَكْتَفِ المُتَوَكِّلُ بِهَذِهِ المُحَاوَلَاتِ حَتَّى أَنَّهُ أَرَادَ إِذْلَالَ الإِمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الفِطْرِ - وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا المُتَوَكِّلُ - أَمَرَ المُتَوَكِّلُ بَنِي هَاشِمٍ بِالتَّرَجُّلِ وَالمَشْيِ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَاصِدًا بِذَلِكَ أَنْ يَتَرَجَّلَ الإِمَامُ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَرَجَّلَ الإِمَامُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَسَائِرِ بَنِي هَاشِمٍ واتَّكَأَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ مُوَالِيهِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الهَاشِمِيُّونَ وَقَالُوا: يَا سَيِّدَنَا مَا فِي هَذَا العَالَمِ أَحَدٌ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ وَيَكْفِينَا اللهُ بِهِ مِنْ تَعَزُّرِ هَذَا؟ قَالَ لَهُمْ أَبُو الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): فِي هَذَا العَالَمِ مَنْ قُلَامَةُ ظُفْرِهِ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ نَاقَةِ ثَمُودَ، لَمَّا عُقِرَتْ النَّاقَةُ صَاحَ الفَصِيلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [عُيُونُ المُعْجِزَاتِ: 122].

     فَاسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَاءِ الإِمَامِ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَلَمْ يَلْبَثِ المُتَوَكِّلُ بَعْدَ هَذَا الدُّعَاءِ سِوَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهَلَكَ.

      وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.