التكفير بلا ضوابط 

:

     من المصائب التي ابتليت بها الأمة في عقودها الأخيرة ظهور جماعات تكفيرية تكفّر المسلمين بلا ضوابط شرعية أو علمية صحيحة، حتى صار هذا الأمر وباءاً ينخر في جسدها ويكاد يقضي على كل شيء حسن فيها، وكأنها خطة معدة سلفاً للقضاء على أمة الإسلام من خلال هذه الهمجية والفوضى والعنف المنظم.

     وحتى يتضح الموضوع الذي بأيدينا للقارىء الكريم بشكل منهجي وعلمي دقيق، نستعرض المطالب فيه على شكل نقاط أربع: 

    النقطة الأولى: بيان معنى الكفر لغةً واصطلاحاً.  

     الكفر في اللغة: هو الستر والتغطية، ومن هنا يسمّى المزارع كافراً لأنّه يستر البذور ويغطيها بالتراب حين يدفنها، يقول تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (1)، أَيّ أعجب المزارعين، ويسمّى الليل كافراً لأنّه يستر الأشياء بظلمته ويُغطّيها، وهكذا. 

     وأما المعنى الإصطلاحي الشرعي للكفر فهو ـ كما عن الراغب الأصفهاني في "المفردات"-: (الكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية، أَو النبوة، أَو الشريعة، أَو ثلاثتها)(2). انتهى.

      وعن السعدي في "الإرشاد إِلى معرفة الأحكام": (حدّ الكفر الجامع لجميع أجناسه وأنواعه وأفراده هو: جحد ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أَو جحد بعضه) (3). انتهى.

    النقطة الثانية: بيان تقسيمات الكفر. 

    يقسّم العلماء الكفر إلى نوعين: 

 الأوّل: الكفر الأكبر.      

 الثاني: الكفر الأصغر. 

     والتعاريف المتقدمة التي ورد فيها الجحد وما شابه ذلك يراد بها الكفر الأكبر، وهو أقسام:  

  1 - كفر التكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسل، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}(4). 

  2 - كفر الجحود والإنكار: وهو أن ينكر الحقّ مع العلم بصدقه، قال الله سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(5).

  3 - كفر الإباء والإستكبار مع التصديق: وهو الإمتناع عن قبول الحقّ استكباراً، وذلك ككفر إبليس، قال الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(6). 

كما توجد أقسام أخرى هي: كفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر النفاق. 

     أمّا النوع الثاني الكفر الأصغر، فهو على أقسام أيضاً: 

   1 - كفر النعمة، يقول الله (سبحانه وتعالى): {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}(7). 

   2 - كفر العشير والإحسان، كما في حديث ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (أرأيت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن) قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشر ويكفرن الإحسان)(8). 

   3 -  الحلف بغير الله: فقد جاء في الحديث: (ومن حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)(9) 

   4 - قتال المسلم: يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (سبّاب المسلم فسوق وقتاله كفر)(10)، هذه جملة من أقسام الكفر الأصغر، كما توجد أقسام أخرى أيضاً. 

النقطة الثالثة: بيان موانع التكفير.     

     ذكر العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية أنّه لا يترتب أثر الكفر من إباحة الدم، وتطليق الزوجة وقطع التوارث بين المسلم وأقربائه، وما إلى ذلك من أحكام المرتد إلاّ بانتفاء الموانع التالية: 

    المانع الأول: الجهل: 

      فإذا كان الإنسان يجهل بأنّ ما يقوله أَو يأتي به من فعل يعد كفراً، فمثل هذا لا يسمى كافراً، ولا يترتّب عليه آثار الكفر. 

    المانع الثاني: الخطأ: 

      وهو كما لو كان الإنسان يقصد بفعله شيئاً فيصادف أن يظهر منه غير ما قصد، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}(11).

    المانع الثالث: الإكراه: 

      وهو إلزام الغير بما لا يريد، قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}(12). 

    المانع الرابع: التأويل ووجود الشبهة: 

     فإنّ المجتهد قد يترك مقتضى النصّ لنص آخر يراه أقوى منه، والتأويل المعتبر هنا أن يكون له وجه في الشرع واللغة العربية، فإن كان له تأويل معذور في المقام، فلا تنطبق عليه صفة الكفر، ولا يترتب عليه آثاره المتقدمة من إباحة الدم وتطليق الزوجة وقطع التوارث.. 

     النقطة الرابعة: فتوى ابن جبرين أنموذجاً للتكفير بلا ضوابط. 

     بعد أن عرفنا معنى الكفر لغةً واصطلاحاً، وعرفنا أقسام الكفر، وعرفنا موانع التكفير، نتعرض الآن إلى فتاوى التكفيريين بلا ضوابط، ولنأخذ فتوى ابن جبرين ـ في تكفيره للشيعة ـ كأنموذج لهذا التكفير، وسنذكر هذه الفتوى على شكل مقاطع، الواحد تلو الآخر، حتّى يتسنى لنا ملاحظة مواضع الخلل والزلل فيها بشكل واضح. 

     جاء في كتاب "اللؤلؤ المكين من فتاوى الشيخ ابن جبرين" ما نصّه: «سؤال: ما حكم دفع زكاة أموال أَهل السنّة لفقراء الرافضةـ الشيعةـ، وهل تبرأ ذمة المسلم الموكَّل بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي الفقير أم لا؟ 

     الجواب: لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنّها لا تُدفع لكافر ولا مبتدع، فالرافضة بلا شكّ كفّار لأربعة أدلة: 

     الأوّل: طعنهم في القرآن، وادعاؤهم أنّه حذف منه أكثر من ثلثيه، كما في كتابهم الذي ألفه النوري وسماه: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب، وكما في كتاب الكافي وغيره من الكتب، ومن طعن في القرآن فهو كافر مكذِّب لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(13). انتهى

     فهنا نجد ابن جبرين قد حكم بكفر الشيعة مستنداً في ذلك على جملة أمور: 

     أوّلها: أنّهم يقولون بتحريف القرآن، فلننظر هنا إلى هذه الدعوى منه.. هل هي تامّة أو لا؟! 

     أقول: هذه الدعوى من ابن جبرين باطلة، بل هي افتراء مفضوح منه على طائفة لها أتباعها بمئات الملايين، ولها علماؤها ومراجعها المعروفون، الذين تملأ كتبهم الدنيا شرقاً وغرباً، وقد ذهب مشهور علمائها ـ كما ينقله عنهم زعيم الطائفة السيد الخوئي في كتابه "البيان في تفسير القرآن" وينقله غيره أَيضاًـ إِلى القول بعدم تحريف القرآن، ومن قال بخلاف ذلك منهم فهو عندهم قول شاذ غير معتد به ولا يمثل رأي الطائفة البتة (14)! فما بال ابن جبرين يجعل القول الشاذ في الطائفة رأياً لها، بينما الرأي المشهور فيها يجعله شاذاً ولا يعبأ به، والمذاهب تحاكم بمشهور أقوالها لا بالشاذ فيها؟!! 

     هل هذا هو من الجهل بأقوال المخالفين له، أو هو عدم التمييز عنده بين المشهور والشاذ في المذاهب، أم هو الزيغ وسلطنة الشيطان على القلوب ابتغاء الفتنة بين المسلمين؟! 

لا ندري واقعاً!!. 

     فالقول بتحريف القرآن إنما هو قول شاذ عند الشيعة، ولا يعبأ به علماؤها ومراجعها المعروفون الذين تدور عليهم رحى المذهب، ومن قال بخلاف ذلك فهو جاهل بأقوال علماء الطائفة ومشهورها. 

     وهنا قد يقول قائل: فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تكفّر الشيعة القائلين بالتحريف عندهم وتتبرأ منهم حتّى لو كان قولهم هذا شاذاً وغير معمول به عندهم؟! 

     الجواب: يوجد مانع من تكفير هؤلاء القائلين بتحريف القرآن، حتّى لو كان قولهم شاذاً ولا يعبأ به عند الطائفة، وجهة المنع هي الـتأويل ووجود الشبهة (التي تقدّم ذكرها في موانع التكفير)، فهؤلاء توجد عندهم عشرات الروايات التي يستفيدون منها ما يذهبون إليه، وهذا بحدّ ذاته مانع من تكفيرهم لمحل الشبهة المذكورة. وحتى الإستدلال عليهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} لا يجدي نفعاً؛ وذلك لوجود تأويل عندهم بلحاظها، فهم يقولون: إنّ القرآن محفوظ ـ بحسب ما يستندون إليه من روايات ـ عند الإمام المعصوم. وبالتالي يكون هذا التأويل مانعاً من تكفيرهم، وسيأتي لاحقاً بيان أقوال علماء أَهل السنّة والجماعة بأنّ المستند الذي يستند إليه المخالف لما عليه جمهور المسلمين حتّى ولو كان ضعيفاً هو مانع من تكفيره.

     نعم، الذي يمكن تكفيره منهم هو الجاحد فيهم الذي يصرّ على القول بالتحريف بعد ثبوت الضرورة عنده بأنّ القرآن الكريم لا زيادة ولا نقيصة فيه، فمثل هذا هو الذي يُكفَّر، ولكن إثبات ذلك في حقّهم دونه خرط القتاد، وذلك أنّه لم يصدر من أَيّ أحد منهم مثل التصريح المذكور. 

     فإثبات أنّ هؤلاء قد ثبتت عندهم ضرورة عدم وجود النقيصة والزيادة في القرآن، ومع ذاك هم يصرّون على القول بالتحريف، وهذا دونه خرط القتاد! 

     وبالتالي فإنَّ ما نطق به ابن جبرين هنا من كون الشيعة كفّاراً بدعوى أنّهم يقولون بتحريف القرآن هو قول باطل جملة وتفصيلاً؛ لأنّه لا يثبت في حقّ القائلين بالتحريف أنفسهم، لثبوت المانع في حقّهم، كما تقدّم بيانه، وقد اتفقت كلمة العلماءـ سنّة وشيعةـ على امتناع تكفير المعين إلا بعد انتفاء الموانع في حقّه.. كما أنّه لا يثبت في حقّ غير القائلين بالتحريف من الشيعة، فإنَّ هؤلاء لا ذنب لهم في الموضوع حتّى يكفّروا، والحال أننا وجدنا ابن جبرين قد أطلق في فتواه هذه ولم يفصّل بين القائلين بالتحريف وغير القائلين به من الشيعة، وهذا ظلم منه لغير القائلين بالتحريف، فالرجل يخبط في فتواه على غير هدى وكتاب منير. 

    المستند الثاني لإبن جبرين في تكفير الشيعة: 

     ويستمر ابن جبرين في فتواه المتقدّمة السيئة الصيت، والتي سالت بسببها دماء الكثير من الأبرياء حين اتخذها الدواعش وغيرهم حجّة لهم في ذبح الشيعة وقتلهم، يقول في المستند الثاني: 

      (طعنهم في السنّة وأحاديث الصحيحين، فلا يعملون بها لأنّها من رواية الصحابة الذين هم كفّار في اعتقادهم، حيث يعتقدون أنّ الصحابة كفروا بعد موت النبي صلى الله عليهم وسلم إلا علي وذريته، وسلمان وعمار ونفر قليل، أمّا الخلفاء الثلاثة وجماهير الصحابة الذين بايعوا فقد ارتدوا فهم كفّار، فلا يقبلون أحاديثهم، كما في كتاب الكافي وغيره من كتبهم). انتهى. 

     أقول: هذه الطريقة من الإستدلال هي ـ في الواقع ـ من أغرب الطرق، لأنّه يلزم منها "الدور" منطقياً، وأنا أشكّ أنّ الرجل يفهم معنى "الدور" في المنطق حتّى يعي ما يتفوه به هنا..! فلاحظوا صورة الإستدلال التي جاء بها وهو لا يدري: "يجب الأخذ بأحاديث الصحيحين التي رواها الصحابة، فإنَّ عدم الأخذ بها كفر، ولكن الشيعة لا يأخذون بأحاديث الصحيحين ويطعنون بها، فهم كفّار". 

يا للسماء.. من أين أوجبت ـ يا شيخ ـ على مخالفيك لزوم الأخذ بكتبك حتّى يلزم من عدم الأخذ بها أن يكونوا كفّاراً بنظرك؟ 

     ومن قال لك إنّ كتبك وصحاحك هي صحيحة وثابتة عند مخالفيك حتّى تلزمهم بالأخذ بها، سواء كانت من رواية الصحابة أَم غيرهم؟! 

     ألم يجدر بك أوّلاً أن تثبت العرش ثمّ تنقش عليه.. فأنت في استدلالك هذا تشبه الإنسان الذي يطلب من الناس أن يصدقوه في دعواه، وعندما سألوه: ما الدليل على كونك صادقاً فيما تقول؟! قال لهم: لأنني أقول لكم: إنني صادق فيما أقول.. فهذا هو "الدور" الذي أشرنا إليه سابقاً، ولكن أنّى لقوم لم يدرسوا العلوم الإستدلالية بشكل سليم حتّى يعرفوا كيفية ممارسة عملية الإستدلال بشكل صحيح، وحتّى لا يقعوا في مثل هذه الفضائح العلمية التي يتجنب الوقوع فيها أقل طالب في حوزات الشيعة العلمية!. 

     وأمّا قوله: «فلا يعملون بها لأنّها من رواية الصحابة »، وقوله: الصحابة الذين هم كفّار في اعتقادهم. 

     أقول: هذا الكلام باطل على إطلاقه، وهو من التهريج المسف الذي كنا نظن أنّه من شأن العوام فقط أن يتلفظوا به، ولكن كما يبدو أنّه لا فرق من هذه الناحية عند هؤلاء القوم بين علمائهم وعوامهم، فالكلّ في درجة واحدة من الفهم السقيم، فالجميع يهرجون على الشيعة في موضوع الصحابة، علماء وعوام، والحال أنّ للشيعة الإمامية رأياً معروفاً في الصحابة، نطقت به كتبهم المعروفة المطبوعة في كلّ زمان ومكان، وهو رأي وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، وهو الرأي الذي يطابق الموجود في الكتاب والسنّة الثابتة عند الفريقين. 

      وحاصل ما تذهب إليه الشيعة في موضوع الصحابة أنّهم لا يعتقدون بعدالة الصحابة جميعهم، كما لا يقولون بارتداد الجميع وابتداعهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يقولون بوجود صحابة نجباء عدول، وفيهم من هم دون ذلك.. وهذا مطلب واضح قد صدحت به الآيات القرآنية الكثيرة من القرآن الكريم، وكذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة في السنّة الشريفة. 

     فانظر - على سبيل المثال - الحديث المعروف بحديث الحوض الوارد في صحاح أَهل السنّة البخاري ومسلم، والذي جاء بالسنّة متعددة معروفة، وحاصله: أنّه يؤتى بأناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة فيؤمر بهم إِلى النار، فيقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أصحابي أصحابي. فيُقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك، قد ارتدّوا على أعقابهم القهقرى، فيقول النبي: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم... أَيّ لا ينجو من الصحابة إلا النزر القليل جداً. 

     علماء أَهل السنّة يعترفون بوقوع الظلم والفسق من الصحابة. 

     فدعوى ارتداد الصحابة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزخر بها كتب أَهل السنّة قبل كتب الشيعة، ومحاولة البعض تمييع هذه الروايات ورميها بحقّ المرتدين في أطراف البادية أَو الجزيرة هي محاولة فاشلة واقعاً، لأنّ هذه الروايات قد جاءت بأَلسنة فصيحة صريحة تعلن بأنّ هؤلاء المرتدين هم صحابة رسول الله لا غير، فقد ورد فيها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أصحابي أصحابي)، وورد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أعرفهم ويعرفونني)، إِلى غيرها من الألفاظ الدالة بالدلالة المطابقية على أنّهم من أصحاب رسول الله لا غير، والمخالف لهذا الظهور والدلالة المطابقية للحديث يكون خارجاً عن جماعة العقلاء، لأنّه يخالف بذلك دلالة الألفاظ على معانيها الظاهرة التي أجمع العقلاء جميعاً على حجيّتها!. 

     وها هو التفتازاني ـ أحد كبار علماء أَهل السنّةـ يصرّح في كتابه شرح المقاصد: «وأمّا ما وقع بين الصحابة من المحاربة والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنَّ بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والحسد واللداد وطلب الملك والرياسة والميل إِلى اللذات والشهوات، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخير موسوماً » (15). انتهى. 

     وها هو الألباني ـ محدّث العصر عند السلفية ـ ينسف عدالة الصحابة من أساس ويجعلها قاعاً صفصفاً لا عشب فيه ولا ماء، ويضطر للتعامل مع قضية عدالة الصحابة كما يتعامل الشيعة في الموضوع من الجمع بين الأدلّة بالتخصيص والتقييد، فهو بعد أن ثبت عنده الحديث الصحيح: (قاتل عمار وسالبه في النار)، وثبت عنده أَيضاً أنّ قاتل الصحابي عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) هو الصحابي أبوالغادية ـ الذي شهد ابن حزم وغيره بأنّه من أهل بيعة الرضوان ـ، قال في "السلسلة الصحيحة": «وأبو الغادية هو الجهني وهو صحابي كما أثبت ذلك جمع، وقد قال الحافظ في آخر ترجمته من الإصابة بعد أن ساق الحديث، وجزم ابن معين بأنّه قاتل عمار: والظنّ بالصحابة في تلك الحروب أنه كانوا فيها متأولين، وللمجتهد المخطىء أجر، وإذا ثبت هذا في حقّ آحاد الناس، فثبوته للصحابة بالطريق الأولى.

      وأقول: هذا حقّ، لكن تطبيقه على كلّ فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة؛ إذ لا يمكن القول بأنّ أبا غادية القاتل لعمار مأجور لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: قاتل عمار في النار! فالصواب أن يقال: إنّ القاعدة صحيحة إلاّ ما دلّ الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها. والله أعلم» (16). انتهى. 

     فهنا نجد الألباني قد تعامل مع قضية عدالة الصحابة كما يتعامل الشيعة من الجمع بين الأدلّة من حيث تخصيص عموماتها أَو تقييد إطلاقها، ولا يذهب في الموضوع إفراط المفرطين الذين يلتفون على الأدلّة والقواعد ويحاولون تمييع الأدلة بما يتوافق وأهواءهم المذهبية. 

     هذا فضلاً على أنّ الشيعة الإمامية وإن قالوا بارتداد بعض الصحابة وإحداثهم في الدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمقتضى أحاديث الحوض الواردة في صحاح أَهل السنّة، إلا أنّهم لم يقولوا بكفرهم كفراً مخرجاً عن الملة، بل عدوا فعلهم هذا ـ سواء في موضوع رزية يوم الخميس أَم إعراضهم عن حديث الثقلين أَو حديث الغدير أَو غيرهما ـ من كفران النعم، أَيّ الكفر الأصغر لا الكفر الأكبر المقابل للإسلام، فهم متابعون في هذا الجانب لإمامهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، حيث الثابت من سيرة علي (عليه السلام) مع مخالفيه من الصحابة أنّه كان يعاملهم على ظاهر الإسلام ولم يقل بكفرهم، رغم تصريحه بأنّ القوم قد استحوذوا على حقّه، وهو الحقّ الشرعي الذي منحه إياه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم في مبحث مفصل في محله.

     وعليه، فما قاله ابن جبرين هنا في مستنده الثاني لتكفير الشيعة يدور بين أمرين: 

     إما أنّ يكون الرجل جاهلاً فعلاً بحقيقة موقف الشيعة من الصحابة، وأنّه لا يعرف كتبهم وأقوال علمائهم الصريحة في هذا الموضوع.

      أَو أنّه يعرف ذلك ومطلّع عليها، لكنّه يصرّ على الإفتراء عليهم، كما هو الشأن في دليله الأول الذي أفتى بلحاظه، والله حسيبه على أقواله هذه!.

    دليل ابن جبرين الثالث لتكفير الشيعة. 

     ثمّ بعد هذا جاءنا ابن جبرين بدليله الثالث لتكفير الشيعة، قال: «الثالث: تكفيرهم لأهل السنّة، فهم لا يصلّون معكم ومن صلّى خلف السني أعاد صلاته، بل يعتقدون نجاسة الواحد منا، فمتى صافحناهم غسلوا أيديهم بعدنا، ومن كفّر المسلمين فهو أولى بالكفر، فنحن نكفّرهم كما كفّرونا وأولى». انتهى.

     أقول: هنا يدّعي ابن جبرين بأنّ الشيعة ـ الرافضة حسب تعبيره ـ يكفّرون أَهل السنّة ويقولون بنجاستهم، وأنه لأجل ذلك يكفّرهم أيضاً، ونحن بغض النظر عن تمامية هذه الكبرى وعدمها، وهي: جواز التكفير لأجل التكفير، سنقتصر في الردّ على صغرى الدليل فقط دون كبراه بغية الإختصار، وهي دعواه بأنّ الشيعة يكفّرون أَهل السنّة ويحكمون بنجاستهم، ونلاحظ هل هذه الدعوى من هذا الرجل هي تامة أو لا؟! 

     الجواب: من يراجع الرسائل العملية لفقهاء الطائفة الإمامية ـ وهي تملأ الدنيا شرقاً وغرباً يراها تصدح بإسلام المخالف (السنّي) وطهارته -. 

     وسأكتفي هنا بذكر عينة يسيرة فقط من فتاوى وأقوال زعيم الطائفة السيد الخوئي (قدس سره) في رسالته العملية المسماة "منهاج الصالحين"، وعلى منوالها جاءت أقوال بقية الفقهاء في الطائفة: 

    1- قال في مسألة 282 من المنهاج المذكور مانصّه: «يجب تغسيل كلّ مسلم حتّى المخالف». انتهى. 

    فما الذي نفهمه من هذه الفتوى؟ 

     هل نفهم منها أنّ السيد الخوئي هنا يقول بكفر المخالف أم أنّه يحكم بإسلامه؟ 

     من الواضح جداً أنّ الفتوى تقول بإسلام المخالف لأنها أوجبت تغسيل كلّ مسلم ومنهم المخالف. 

     وبنفس هذه الفتوى أفتى السيد السيستاني (دام ظله الوارف) في منهاج الصالحين، وبالترقيم ذاته، فراجع ثمّة. 

    2 - وفي (مسألة 1635) جاء ما نصّه: «يشترط في حلّ الذبيحة بالذبح أن يكون الذابح مسلماً، فلا تحلّ ذبيحة الكافر وإن كان كتابياً، ولا يشترط فيه الإيمان، فتحلّ ذبيحة المخالف إِذا كان محكوماً بإسلامه على الأقوى، ولاتحل إِذا كان محكوماً بكفره كالناصب والخارجي وبعض أقسام الغلاة». انتهى.

     في هذه الفتوى.. نجد السيد الخوئي قد فصّل بين المخالف المحكوم بإسلامه (وهو السني غير الناصبي) فقال بحليّة ذبيحته، وبين المخالف المحكوم بكفره (وهو الناصبي المبغض لأهل البيت، والخارجي وبعض أقسام الغلاة) فقال بحرمة ذبيحته. 

    3 -  وفي كتاب التجارة من المنهاج (مسألة 37)، جاء ما نصّه: «ما يأخذه السلطان المخالف المدّعي للخلافة العامة من الضرائب المجعولة على الأراضي والأشجار والنخيل يجوز شراؤه وأخذه منه مجاناً (إلى أن يقول:) وفي جريان الحكم المذكور فيما يأخذه السلطان المسلم المؤالف أَو المخالف الذي لا يدّعي الخلافة العامة، أو الكافر إشكال». انتهى. 

     وهنا نجده (قدس سره) قد أطلق بشكل صريح وواضح صفة المسلم على السلطان المخالف، أَيّ الحاكم السنّي. 

     فهذه الأقوال وغيرها، التي تصدع بها الرسائل العملية لزعماء الطائفة، والذين يقلدهم عشرات الملايين من أبنائها هي أكبر دليل على كذب هذا المتنطع ـ ابن جبرين ـ والمنتحل لصفة العلم، الذي يجهل كتب مخالفيه ويفتي بكفرهم على جهل منه.

    مغالطة وردها: 

     هنا قد يغالط البعض، سواء ابن جبرين أم غيره، كما سمعنا ذلك من بعضهم في كلماتهم هنا وهناك، فيقول: إِنّكم تريدون بالناصبي في فتاواكم المتقدّمة السنّي، وبالنتيجة أنتم تكفّرون أَهل السنّة كلّهم. 

     وأقول في الردّ على مثل هذا الكلام: هناك قاعدة معروفة عند الفقهاء تقول: التفصيل قاطع للشركة، ففي كلّ مورد يجري فيه التفصيل بين شيئين فهذا يعني أنّهما لا يشتركان في نفس الحكم.. وفي موردنا هنا نجد أنّ فقهاء الإمامية قد فصّلوا في موضوع المخالف وصنفوه إِلى صنفين: مخالف ناصبي، ومخالف غير ناصبي، فالأوّل قالوا بكفره ونجاسته، والثاني قالوا بإسلامه وطهارته.. فالفرق بين السنّي الناصبي والسنّي غير الناصبي واضح جداً، لاختلاف الموردين موضوعاً وحكماً؛ إذ بين الإثنين عموم من وجه كما هو واضح، والخلط بينهما من الجهل بمكان. 

وجه حكم فقهائنا على الناصبي بالكفر والنجاسة: 

     وأمّا الوجه في حكم فقهائنا على الناصبي بالكفر والنجاسة فهو لمخالفته الضروري في الإسلام، الذي هو لزوم محبة أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومودّتهم، وهذا الحكم لا تنفرد به الشيعة الإمامية فقط، فالناصبي ملعون عند المسلمين جميعاً، فها هو ابن تيمية يقول في أجوبته على مسائل مقدم المغولي ما نصّه: «قال (أي مقدم): فما تحبّون أهل البيت؟ 

     قلت (ابن تيمية): محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه. 

     قال مقدم: فمن يبغض أهل البيت؟    

     قلت: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملآئكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (17). انتهى. 

     الكلمات الموهمة للكفر في كتب علمائنا: 

      بقي أن نشير إِلى ما يستند إليه البعض من تكفير الشيعة مقابل تكفيرهم للسنّة بما يجده من عبارات توهم التكفير في بعض كتبهم، فمثلاً جاء في كتاب "مصباح الفقاهة" للسيد الخوئـي ما نصّه: «أنّه ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين ووجوب البراءة منهم وإكثار السبّ عليهم واتهامهم والوقيعة فيهم: أَيّ غيبتهم لأنهم من أهل البدع والريب. 

      بل لا شبهة في كفرهم؛ لأَنّ إنكار الولاية والأئمة حتّى الواحد منهم والإعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة» (18). انتهى. 

      وهنا قد يقول القائل: انظروا ها هو السيد الخوئـي يقول بكفر أَهل السنّة وجواز لعنهم. 

      وأقول في الردّ على هذه الدعوى: من المعروف في علم الأصول عند الفريقين أنّه عند تعارض الظهورات في الأقوال يصار إِلى الجمع العرفي بينها، وقد مرّ بنا سابقاً من كلام السيد الخوئي في فتاويه أنّه يقول بإسلام المخالف ـ أَيّ السني غير الناصبي ـ وطهارته، بينما ظاهر عبارته هنا يوحي خلاف ذلك.. فكيف يتم الجمع بين الكلامين؟! 

      الجواب: تحمل عبارته هنا على المخالف من أهل الريب والبدع لا مطلق المخالف، بدليل أنّه (قدس سره) قد استند في كلامه هذا ـ كما هو الملاحظ من صدر عبارته ـ على ما ثبت في الروايات والأدعية والزيارات، وعندما نرجع إِلى الروايات نجد هذا التفصيل الذي أشرنا اليه، كهذه الرواية الصحيحة السند التي رواها الشيخ الكليني في الكافي عن داود بن سرحان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كي لا يطمعوا الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لهم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات). وهذه الرواية قد صححها السيد الخوئي في كتابه "مصباح الفقاهة" (19)، فراجع ثمة. . 

      وكذلك قول السيد الخوئي: (لا شبهة في كفرهم)، فهو بعد حكمه بإسلام المخالفين في فتاويه الصريحة في "المنهاج" يكون المراد من تكفيرهم هنا الكفر الأصغر، أَيّ كفر المعصية المقابل للطاعة، دون الكفر الأكبر المخرج عن ملة الإسلام. 

      فإنّ للكفرـ كما تقدّم بيانه ـ إطلاقات في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فقد يطلق الكفر ويراد به المعصية كما في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أَو يراد به كفران النعم، كما في قوله (سبحانه وتعالى): {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (20)، فهذا كلّه من الكفر الأصغر أَو كما يطلق عليه البعض: كفر دون كفر.. فها هو البخاري يعنون باباً في صحيحه تحت عنوان: (باب كفران العشير، وكفر دون كفر). قال ابن حجر في "فتح الباري": «قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: مراد المصنف أن يبين أنّ الطاعات كما تسمى إيماناً كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة» (21). انتهى.

      وعليه فلا مجال لمؤاخذة الشيعة الإمامية على بعض العبارات الموجودة في كتبهم هنا وهناك، وذلك بعد إمكان الجمع بينها جمعاً عرفياً صحيحاً ينتهي إِلى القول بإسلام المخالف السنّي ـ غير الناصبي ـ وطهارته، وأَمّا محاولة البعض اقتطاع هذه النصوص وإبرازها دون بقية الأقوال الأخرى للعلماء، فهذه عملية فاشلة وبائسة، تكشف عن جهل فاعليها وقصورهم في الجمع بين كلمات أهل العلم بشكل صحيح، وقد عاب المولى (سبحانه وتعالى) الذين يجعلون القرآن عضين، أَيّ الذين يجزؤونه أجزاء فيؤمنون ببعض ويكفرون بالبعض الآخر، والحال أنّ مصدر الكلام واحد!، فتدبّر أيّها المتابع كيف يتطفلون على كلمات أَهل العلم، تماماً كما يتطفل الجاهلون على كتاب الله باقتطاعه أجزاءً دون أجزاء.!! 

     دليل ابن جبرين الرابع في تكفير الشيعة: 

      ويستمر ابن جبرين في فتواه السيئة الصيت هذه، فيقول في دليله الرابع: «الرابع: شركهم الصريح بالغلو في علي وذريته، ودعاؤهم مع الله، وذلك صريح في كتبهم، وهكذا غلوهم ووصفهم له بصفات لا تليق إلا برب العالمين، وقد سمعنا ذلك في أشرطتهم..». انتهى.

      أقول: لم يبين لنا (ابن جبرين) هنا الغلو الذي وجده عند الشيعة والذي سماه شركاً صريحاً؟ 

       فهل وجدهم يقولون مثلاً : إنّ ربنا هو علي وأَنّه شريك مع الله في الربوبية؟ 

      أم وجدهم يقولون: إنّ لأهل البيت قدرة مستقلة عن الله تمدّ شيعتهم بالرزق وقضاء الحاجات؟ 

      فهلاّ دلّنا هذا الرجل على مصدر واحد من مصادر الشيعة المعتبرة يوجد فيها مثل هذا الكلام حتّى تصح دعواه في حقّهم بأنّهم يشركون بربّهم شركاً صريحاً؟ 

      نعم، لعله يريد أن يقول، كما هو المعروف من كلمات الوهابيين عموماً: إنّ الشيعة يتشفعون ويتوسلون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبأئمتهم (عليهم السلام ) بعد موتهم، فاعتبر هذا شركاً صريحاً. 

      وهنا أقول: إثبات كون التشفع والتوسّل بالنبي والأئمة بعد الموت هو شرك صريح دونه خرط القتاد، فها هي الأدلّة القرآنية والنبوية الصحيحة تدفع في صدور المتطفلين على العلم وأهله في هذا الجانب إِلى يوم القيامة.

      وسأكتفي هنا بذكر دليلين فقط: واحد قرآني، والآخر نبوي:

      1 - قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (22)، فهذه الآية يوجد فيها عموم يدلّ على جواز التشفع بالرسول في حياته وبعد مماته، إذ من الثابت عند النحاة وعلماء البيان أنّ وقوع الفعل في سياق الشرط يفيد العموم وضعاً، لأنّ الفعل هو في معنى النكرة لتضمنه مصدراً منكراً، والنكرة الواقعة في سياق النفي أَو الشرط تفيد العموم وضعاً، وهنا في هذه الآية الكريمة وقع الفعل (جاؤوك) في سياق الشرط، فهو يفيد العموم، وبذلك يثبت جواز إتيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب الإستغفار منه لله تعالى حياً وميتاً. وهذا المعنى للعموم ـ من الآية الكريمة ـ استفاده جمع كبير من كبار فقهاء أَهل السنّة والجماعة ومن مختلف المذاهب. 

      جاء في "المغني "لابن قدامة الحنبلي (الذي يصفه ابن تيمية بأنّه ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من ابن قدامة) عند ذكره لما يستحب للزائر أن يقوله عند توجهه للقبر الشريف: اللهم إنك قلت وقولك الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}، وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إِلى ربّي، فأسالك يا ربّ أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته (23). انتهى. 

      فهذا البيان من ابن قدامة الحنبلي يدلّ على فهمه للعموم من الآية الكريمة وأنها لا تختص بحال حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وإنما هي شاملة لمن جآءه بعد الممات أيضاً..!، وبنحوه صرّح جملة كبيرة من علماء أَهل السنّة من الأحناف والحنابلة والشافعية والمالكية(24). 

      2 ـ أخرج الطبراني في المعجم الكبير: عن عثمان بن حنيف، ما نصّه: 

       أنّ رجلاً كان يختلف إِلى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثمّ ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثمّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجّه بك إِلى ربّك (عزّ وجلّ)، فيقضي لي حاجتي. فصنع ما قال له عثمان، ثمّ أتى باب عثمان، فجاء البواب حتّى أَخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً! ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتّى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأتاه ضرير، فشكا عليه ذهاب بصره، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): أفتصبر؟ فقال: يا رسول الله، إنّه ليس لي قائد، وقد شقّ علي، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "إيت الميضأة، فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات". 

      قال عثمان: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط(25). 

      وهذا الحديث صحّحه الطبراني نفسه، والبيهقي في دلائل النبوة ج 6 ص 167، والحاكم في المستدرك ج 1ص 526 عن طريق أحمد بن شبيب عن أبيه ولم يذكر القصة، وسلّمه الذهبي، وأقرّ الحافظ المنذري تصحيح الطبراني له في الترغيب والترهيب ج 1 ص 273، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 2 ص279، فليراجع ثمة. 

      فهذا الأثر الصحيح يستفاد منه العموم لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي سمعه وشاهده هذا الصحابي عثمان بن حنيف، والذي قام بتعليمه بنفسه لأحد الأشخاص أن يدعوا به في زمن عثمان بن عفان، فلاحظوا ـ في هذا الأثرـ كيف ورد التوسل بذات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته بشكل صريح بقوله: (يا محمد إني أتوجّه بك إِلى ربّك)، وهذا يدحض بشكل قاطع دعوى ابن جبرين وغيره من منع التوسّل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته ووسم القائمين به بالشرك الصريح. 

      ولسنا فقط ممن يذهب إِلى جواز التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته، فها هم جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة ومتأخّري الحنفيّة والحنابلة يجيزون ذلك أَيضاً، فانظر "الموسوعة الفقهية" الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية لتقف على بيان هذا المعنى بالتفصيل والمصادر(26). 

      وحتّى لو سلمنا لابن جبرين وممن يشرب مشربه العقدي والفقهي منعه للتوسل والتشفع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته، فالمسألة لا تعدو أن تكون خلافية بين المسلمين وليس محلّ إجماع أَو ضرورة، وبالتالي لا يصحّ التكفير عليها مطلقاً، فعلماء المسلمين يمنعون تكفير المسلم فيما إِذا كان في تكفيره اختلاف، فكيف بمن كان مستنده صحيحاً فيما يذهب إليه ويوافقه عليه جمهور الفقهاء من المذاهب الإسلامية كلّها؟ 

  أقوال علماء أَهل السنّة في عدم جواز التكفير بالمحتمل 

     جاء في "البحر الرائق" لابن نجيم الحنفي المصري: «ولا يكفّر بالمحتمل لأنّ الكفر نهاية في العقوبة، فيستدعي نهاية في الجناية، والذي تحرر: أنّه لا يفتى بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أَو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة» (27). انتهى. 

      وقال الشيخ محمد عبده: «لقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد دينهم أَنّه إِذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر» (28). انتهى.

      وعليه، فما صدع به ابن جبرين هنا من تكفيره للشيعة ورميهم بالغلو نتيجة التوسّل والتشفع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمتهم الأطهار هو الذي يعدّ من الغلو والإفراط في الدين بما ليس منه، وهو البدعة بعينها.

      ومما قاله ابن جبرين في فتواه المتقدّمة: (ودعاؤهم مع الله، وذلك صريح في كتبهم). 

      أقول: كم كنت أتمنى على (ابن جبرين) هنا أن يذكر لنا ـ ولو مصداقاً واحداً فقط ـ على مدّعاه هذا، حتّى نتعرف ـ على الأقل ـ على قدرته العلمية في تطبيق المفهوم على المصداق، مع أنني أشك في قدرته على ذلك؛ لأنّ هذا الرجل حاله حال بقية قومه الذين لا يعرفون الفرق بين النداء والدعاء، فيحسبون كلّ نداء دعاء، والحال أنّ بين الإثنين عموم من وجه.. فقول القائل مثلاً: يا علي اشف ولدي، هو نداء وليس دعاء، وهو يحمل على المجاز في الإسناد في كلام العرب، والمجاز في الإسناد سائغ لغة وشرعاً، وله مصاديق لا تعد ولا تحصى في القرآن الكريم ولغة العرب، ولكن القوم لا يفقهون من علوم البلاغة شيئاً حتى يعرفوا الفرق بين المجاز في الإسناد والحقيقة العقلية. 

      وبمثله تجد عندهم جملة استدلالات بالآيات الكريمة تكشف عن ضحالة فهمهم، وقد ردّها كبار المحققين من أَهل السنّة والجماعة أنفسهم. 

       قال العلامة الشوكاني في كتابه "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد": «وبهذا تعلم أنّ ما يورده المانعون من التوسّل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، ونحو قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، ونحو قوله سبحانه وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ}. ليس بوارد، بل هو من الإستدلال على محلّ النزاع بما هو أجنبي عنه، فإنَّ قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إِلى الله زلفى، مصرّح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسّل بالعالم مثلاً لم يعبده، بل علم أنّ له مزية عند الله بحمله العلم فتوسّل به لذلك، وكذلك قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}، فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره كأن يقول: بالله وبفلان. والمتوسّل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله، فإنما وقع منه التوسّل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسّل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ}. 

فإنّ هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربّهم الذي يستجيب لهم، والمتوسّل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعاء غيره معه» (29). انتهى.

      وبهذه البيانات من الأدلّة القرآنية والنبوية الصحيحة وكلمات الأعلام من أَهل السنّة والجماعة ننهي ردّنا على ابن جبرين، الذي أفتى بغير علم ولا كتاب منير على تكفير طائفة عظيمة من المسلمين بتسويلات شيطانية بائسة، فكان مصداقاً واضحاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوارد في كتب الفريقين: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إِذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)(30). 

      وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

____________________________

(1)سورة الحديد: 20.

(2)مفردات غريب القرآن: 434. 

(3)الإرشاد إلي معرفة الأحكام: 203 ـ 204. 

(4)سورة العنكبوت: 68. 

(5)سورة النمل: 14. 

(6)سورة البقرة: 34. 

(7)سورة النحل : 83.

(8)صحيح البخاري 1: 13، باب كفران العشير وكفر دون كفر. 

(9)مسند أحمد 1: 454. 

(10)صحيح البخاري 1: 17 باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. 

(11)سورة الأحزاب: 5. 

(12)سورة النحل: 106. 

(13)اللؤلؤ المكين: 39. 

(14)راجع ممن ذكر بأنّ مشهور الطائفة هو القول بعدم التحريف: السيد الخوئي في البيان: 301، والشيخ التبريزي في الأنوار الالهية: 324، والبلاغي في آلاء الرحمن: 26، ويوجد غيرهم كثير. 

(15)شرح المقاصد 2: 306.  

(16)سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 19. 

(17)انظر: كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 488: 4. 

(18)مصباح الفقاهة 2: 11. 

(19) مصباح الفقاهة، أبو القاسم الخوئي 1: 281 و354. 

(20)سورة إِبراهيم: 7.

(21)فتح الباري 78: 1. 

(22)سورة النساء: 64. 

(23)المغني، أبن قدامة الحنبلي 3: 590. 

(24)أُنظر: وفاء الوفا، للعلامة السمهودي الشافعي 2: 253. 

(25)المعجم الكبير 9: 30، رقم الحديث: 8311. 

(26)الموسوعة الفقهية 14: 156. 

(27)البحر الرائق شرح كنز الدقائق 3: 428. 

(28)الأعمال الكاملة للامام محمد عبده 3: 302. دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، طبعة القاهرة 1993. 

(29)الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد: 21، 22. 

(30)صحيح البخاري 1: 34، باب كيف يقبض العلم، وانظر: كتاب الكافي 1: 38، بمضمونه.