شكر النعمة وكفرانها

: السيد مهدي الجابري الموسوي

من كلام للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في شكر النعمة وكفرانها

قوله: (النعمة محنة، فإنْ شُكرتْ كانتْ كنزاً وإنْ كُفرتْ صارتْ نقمة)(1).

الشرح:

إن الإنسان منذ أنْ وُجد على وجه الأرض وجرى عليه قلم التكليف فهو في وسط دائرة الابتلاء والامتحان والاختبار، يقول الحق تعالى في هذا الخصوص: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2). 

فهذا النص القرآني يقرر عدم انفكاك الإنسان في وجوده من أنواع الابتلاءات والاختبارات، ويقول عزّ ذِكره:) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)، وقال عزّ شأنه:) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ((4).

وهنا يُثار هذا التساؤل:

هل الابتلاء هو فقط بالشدائد والمصائب؟

ويُجاب عليه بما قاله سبط رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في كلمة موجزة: (النعمة محنة...)، أي أن الابتلاء ليس فقط بالشدائد والمصائب بل كذلك يكون بالخيرات والنعم.

وللوقوف على معنى قول الإمام (عليه السلام) على نحو أكثر وضوحاً لا بد من الرجوع إلى المعاجم اللغوية، ولنا عندها وقفتان:

 الأولى للتعريف بالنعمة لغة واصطلاحاً.

والثانية للتعريف بالمحنة لغة واصطلاحاً.

أما الأولى في تعريف النعمة لغة واصطلاحاً:

فالنِّعمة في اللغة - بكسر النون - الحالة الحسنة، والنعمة مصدر دالّ على الهيأة التي يكون عليها الإنسان كالجِلسة والرِّكبة والمِشية.

والنَّعمة - بفتح النون - التنعُّم، وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضَّربة والشَّتمة.

والنِّعمة - بكسر النون – تكون أيضاً للجنس، وهي تقال للقليل والكثير، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ...)(5).

والنعيم والنُّعمى – بالضم – الدَّعة والمال، وهو ضد البأساء والبؤس، وجمع النِّعمة نِعَمٌ وأنعُم، ونَعِم الشيء؛ لانَ ملمسُه ونضر وطاب، والتنعيم: الترفُّه.

ونِعمة الله – بكسر النون – مَنُّهُ وعطاؤه للعبد مما لا يمكن لغيره أن يعطيه إياه، كالسمع والبصر، وفلان واسع النعمة أي واسع المال وافره، والنعمة كذلك الرفاهية وطيب العيش وسعته ورغَده.

والإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصَل إليه من جنس الناطقين؛ فإنه لا يقال: أنعَم فلانٌ على فرسه ودابته.

والنَّعماء بإزاء الضراء، (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ... ((6).

والناعمة والمناعمة والمنعَّمة: الحسنة العيش والغذاء المترفة.

وتنعَّمَ: تناول ما فيه النعمة وطيب العيش، يقال نعّمه تنعيماً، أي جعله في نعمة ولينِ عيشٍ وخصب، والمنعام: المفضال الذي يعطي ويكثر.

والمنعَّم: كثير المال، حسن الحال، وافر الخير(7).

وتحصّل من جميع ما تقدم: أن كلمة النعمة في أصل اللغة تدل على الحالة التي يستلذها الإنسان ويستطيبها ويتمناها، وعلى ذلك فإنه يراد بها رفاهية العيش وطيبه ومتعته ورغده وسعته.

والنعمة اصطلاحاً: هي المنفعة الواصلة إلى الغير على جهة الاحسان إليه، وهي موجبة للشكر المستلزم للمزيد (8).

وتطلق النعمة أيضاً في لسان الأئمّة عليهم السلام تارة على الدين (9)، وتارة عليهم(10)، وعلى موالاتهم ومحبّتهم(11)، كما هو ظاهر من التتبّع(12) .

فالنعمة جنس عام تندرج فيه أنواع النِّعم, فمنها نعمة الدين ونعمة الولاية ونعمة الصحة في البدن والسمع والبصر والعقل وجميع الأعضاء، وأعظمها نعمة الدين والثبات على النهج القويم لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)  وآله الطاهرين(عليهم السلام)، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا)(13)، فهي أعظم نعمة وأجل منّة امتنّ الله تعالى بها على هذه الأمة، وقد نوّه الله عزّ ذِكره بهذه النعمة العظيمة بقوله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(14) , وإنما كانت هذه النعمة هي أجلّ النعم وأعظمها؛ لأن بها حصل الخروج من الظلمات إلى النور والظفر بالهداية والسلامة من الغواية. 

وأما الثانية ففي تعريف المحنة لغة واصطلاحاً 

أما المحنة لغة: فهي واحدة المِحَن، لها معانٍ هي:

الأول: المحن أي الاختبار، والخبرة، والمحنة التي يمتحن بها الإنسان من بلية(15).

الثاني: المحنة بمعنى العطية(16).

الثالث: والمحن الليِّن من كل شيء(17).

ومن خلال المعنى اللغوي للمحنة تبين أنها وردت بمعنى الاختبار والابتلاء والتمحيص والامتحان، وأنها تأتي بمعنى العطية واللين.

وأما اصطلاحاً: فهي تعني الابتلاء والاختبار(18).

ونخلص من هذا كله إلى أن المحنة امتحان وابتلاء وتمحيص بمصيبة في الدين أو النفس أو الأهل أو المال، يُعرف من خلالها صبر الممتحَن أو جزعه.

ومن هنا يتضح لنا قول الإمام المجتبى (عليه السلام): (النعمة محنة) أي أن البلاء كما يكون بالشر والشدائد والمصاعب والمِحن، فإنه كذلك يكون بالخيرات والنعم.

ويشهد لذلك قول الحق تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)(19), وقوله سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(20), وقوله تعالى: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(21), وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(22, والامتحان بالنِّعم والخيرات لا ينتبه له إلا من وفقه الله سبحانه لذلك.

قال (عليه السلام): (النعمة محنة، إنْ شُكرَتْ كانت كنزاً ...).

والشكر في اللغة هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، ويقال: شكرتُه وشكرتُ له، وباللام أفصح، ويقولون: دابة شكور إذا كان يكفيها العَلَف القليل، ويقال أيضاً: دابة شكور إذا كانت تُظهِر من السِّمَن أكثر مما تُعطى من العَلَف، وهذه المعاني تدل على النماء وعلى الزيادة(23).

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم للمنعم(24).

وشُكْر اللهِ عزّ وجلّ يتحقق بثلاث مراتب بحسب الأكملية:  

الأولى: الاعتراف بالنعمة. 

الثانية: الثناء على المنعِم بها. 

الثالثة: استعمالها في طاعة المنعِم.

فالشكر الأكمل يتحقق بالاعتراف بها، وذلك أن يستذكرها الإنسان في قلبه، وتكون حاضرة على الدوام في باله وفي ذهنه، ويتحدث بها بلسانه لقوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(25)، أي: اذكرْ نعَم الله وأظهرها وتحدثْ بها(26)، وبالثناء على المنعِم، وذلك بأنْ يثني على الله سبحانه ويحمده على نعمه، وباستعمال تلك النعم في طاعة المنعم عز وجل وفي الموارد التي يحرز بها مرضاته سبحانه وعدم صرفها فيما يسخطه, فبهذه الأمور يتحقق الشكر الأكمل .

إذن فشكر أنعُم الله عزّ ذكره يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح.

فقول الإمام (عليه السلام): (... فإنْ شُكرتْ كانت كنزاً ...) معناه أن النِّعم إذا شُكرت فإنها تبقى وتستقر، واتضح مما تقدم أن شكر النعمة يتحقق باللسان والقلب والجوارح، فمتى ما تحقق الشكر بهذه الأمور صار فاعلها شكوراً وصار للنعمة عنده قرار ومستقر، وبتعبير الإمام (عليه السلام) صارت كنزاً؛ لأن الله عزّ وجلّ وعد بالزيادة لمن شكَر، في قوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(27).

 وإليك نماذج من القرآن الكريم على شكر الشاكرين لأنعم الله؛ فإن الله تبارك وتعالى ذكر عدداً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، اتصفوا بصفة الشكر والثناء لله عزّ وجلّ منهم:

 نبي الله سليمان (عليه السلام):

جاء في قصة نبي الله سليمان (عليه السلام) حين سمع النملة تحذِّر قومها الهلاك إنْ لم يدخلوا مساكنهم فاستشعر سليمان (عليه السلام) النعمة وسأل ربه النجاح في الاختبار بالتوفيق للشكر: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)(28).

 ولما جيء إليه بعرش بلقيس ملكة سبأ من اليمن إلى الشام في أقل من طرفة عين: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(29).

 نبي الله نوح (عليه السلام):

فقد وصفه الحق تعالى بأنه عبد شكور، فقال عزّ من قائل: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(30) .

نبي الله إبراهيم (عليه السلام):

وقد ذكره الحق سبحانه وأثنى عليه، ومن جملة ما أثنى عليه أنه كان شاكراً لأنعُم ربه، فقال عزّ وجل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(31).

  نبي الله لوط (عليه السلام):

جاء ذكره في سورة القمر, حيث ذكر الله سبحانه تكذيب من كذّبه وإهلاكه للذين كذبوه وعارضوه فذكر إنجاءه له ومَن معه, وأن لوطاً (عليه السلام)  حدّث وأخبر بأنّ هذه نعمة من عند الله عزّ وجلّ يجزى بها من شكر؛ فقال سبحانه: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ* نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ)(32), فإن لوطاً (عليه السلام )ومن معه نجاهم الله من العذاب الذي أحاط بهم من قبل الذين كذبوه وقال الله عزّ وجلّ: (كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) يعني: مثل ما فعلنا بهم نفعل بمن يشكر الله على نعمه(33).

ثم قال (عليه السلام): (... وإنْ كُفِرتْ صارت نقمة).

الكفر في اللغة ستر الشيء وتغطيته، فيقال لمن غطى درعه بثوبه: قد كفر درعه، ووُصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزراع لستره البذر في الأرض، وكذلك يوصف به البحر، والوادي العظيم، والنهر الكبير، والسحاب المظلم.

وكُفر النعمة، وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها، وعدم نسبتها إلى من أولاها وأسداها، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر.

ولما كان الكفران يقتضي جحود النعمة صار يستعمل في الجحود.

والكافر على الإطلاق متعارف، وعني به الساتر للحق، المغطي لما أُمر بإظهاره وكشفه وبيانه من الحق.

والكفور: المبالِغ في كفران النعمة، قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)(34), وهذا تنبيه على ما ينطوي عليه الإنسان من كفران النعمة, وقلة ما يقوم بأداء الشكر, ولذلك قال الحق تعالى: ( قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ )(35), وقال: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )(36), وفيه تنبيهٌ على أنه تعالى عرّفه الطريقين, فمن سلك سبيل الشكر, ومن سلك سبيل الكفر (37).

إذن، كفران النعمة معناه إخفاؤها، وله مصاديق ثلاث: 

 الأولى: بأن يجهل أصل النعمة، فهو نتيجة لعدم الفهم، لا يعرف النعمة ولا يرى لها وجوداً، ويساوي بين وجودها وعدمها. 

 أو يجهل المنعم، بأن يجهل الخالق بالمرة، أو يجهل أنه هو المنعم، فلا يرى تلك النعمة منه بل يراها من غيره. 

 والخلاصة أن الجهل بالنعمة أو بالمنعم، كلاهما كفران بالنعمة، وموردٌ قطعيّ للعقوبة التي وُعد بها الكافرون بالنعمة، ولا شك أنه من كبائر الذنوب. 

الثانية: الكفر بحسب الحال، وتوضيحه أن الإنسان العاقل حين تصل إليه نعمة الله يجب أن يفرح ويبتهج قلبه، حيث حلّت به نعمة الله وعنايته، ويجب أن يَذكر الله ويشكره ويأمل دوام فضله (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(38), أما إذا فعل عكس ذلك فأساء الظن بخالقه، ولم يأمل فضله ، ولم يأنس قلبه معه بل كان بعيداً عنه يائساً منه، فذلك هو الكفر بنعمة الله. 

الثالثة: الكفر بالأعضاء والجوارح ـ وهو الكفر العملي ـ وذلك بأن يقصد بقلبه المعصية ويظهر بلسانه الذم والشكوى بدل ذكر النعمة وشكرها (وأمّا بِنِعْمَةِ ربِّكَ فَحَدَّثْ)(39), فهو يتجاهل النعمة ، ويشكو لعدم تحقق آماله الوهمية من فعل الله ويصرف نعمة الله في غير ما خُلقت له، ويستعين بأعضائه على ما نهى الله عنه، وما يوجب البعد عن رحمته(40). 

 قال الإمام السجاد (عليه السلام) في تفسير (الذنوب التي تغير النعم): منها كفران النعم(41). 

 وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (ضغطة القبر للمؤمن كفارة لما كان منه من تضييع النعم)(42).

وإليك نماذج مما جاء في كتاب الله سبحانه من كفر النعم:

القرية التي كفرت بأنعم الله:

فقال عزّ وجلّ: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)(43), فبيّن الحق سبحانه في هذا المثل الذي ضربه لهذه الأمة بهذه القرية من الأمم السابقة التي كان هذا شأنها؛ حيث أغدق الله تعالى عليها النعم وأولى عليها الخيرات؛ يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فلما كفرت بهذه النعم؛ أذاقها لباس الجوع والخوف بما كسبته أيديها، فحصل لها ما حصل،  فسلبت منها نعمة الأمن وحلت محلها نقمة الخوف والبؤس والشقاء، فكل ذلك كان نتيجة لكفران النعم.

قارون وكفره بالنعم:

وذكر الحق عزّ وجلّ قصة قارون في سورة القصص، وما حصل له من النعم العظيمة التي توالت عليه؛ حتى إن مفاتح خزائنه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقال بأن ما أوتيه من هذه النعم لكونه أهلاً لذلك؛ فكَفَر هذه النعم ولم يشكرها، ولم ينسبها إلى من أولاها وأسداها ، فضلاً عن عدم صرفها في طاعة الله عزّ وجلّ, فقال سبحانه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)(44), فهذه هي نتيجة كفران النعم، أنْ خسف الله به وبداره الأرض، فهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها عليه، لما لم يشكرها صارت وبالاً عليه، وذهبتْ وذهب هو معها من غير أن يهنأ بها ويسعد ، بل لحقه منها الضرر والخسران في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

سبأ وكفرهم بالنعم:

وذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز قصة سبأ بعد أن ذكر قصة داود وسليمان (عليه السلام) اللذين كانا من الشاكرين لأنعم الله عزّ وجلّ، ذكر قصة الذين كفروا بنعم الله عزّ وجلّ وما حل بهم من العذاب وما حصل لهم من قلة الخير وقلة النعم، ثم تمزيقهم وتشتيتهم ، قال الله عزّ وجلّ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(45), ثم ختم سبحانه وتعالى الآيات بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(46),أي أن الذي وقع عليهم وحلّ بهم فيه عبرة لمن اعتبر.

فهذه نماذج وأمثلة مما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ في العقاب الذي حلّ بمن كفر بأنعم الله عز وجل؛ فإن كفران النعم يذهب بها عن صاحبها ويناله ما يناله من العذاب في الدنيا، وما يناله في الآخرة أشد وأعظم من ذلك.

خلاصة الكلام:

قال الإمام المجتبى (عليه السلام): (النعمة محنة، إنْ شُكرتْ كانت كنزاً وإنْ كُفرتْ صارت نقمة) ومعنى ذلك أن الابتلاء يكون بالخيرات والنعم كما يكون بالشدائد والمصائب، والنعمة متى ما شُكرت تنامت وازدادت فصارت كنزاً، ومتى ما كُفرت وتُرك شكرها وأُنكر من أولاها وأسداها ارتفعت وأصبحت وبالاً ونقمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي, ج25, ص113 .

(2) سورة الملك: آية 2.

(3) سورة العنكبوت: آية 2 – 3.

(4) سورة محمد  : آية 31.

(5) سورة النحل: آية 18.

 (6) سورة هود: آية 10.

(7) ينظر: مفردات ألفاظ القرآن – الراغب الأصفهاني – ص499 – 500. لسان العرب – ابن منظور – ج12, ص687 – 689. القاموس المحيط – الفيروز آبادي – ص1500 – 1501. المعجم الوسيط – هيأة التأليف، إبراهيم أنيس وآخرون – ص 972. الأفعال في القرآن الكريم – عبد الحميد السيد – ج2, ص1361.

(8) الروضة البهية – الشهيد الثاني – 1: 221.

(9) البحار، ج4 , ص 53 , ج9, ص35.

(10) تفسير العياشي 2: 246 - 247 / 2، البحار 24: 51 / 2 - 4 و53 / 8، 10 و54 / 16 - 18، وغيرها.

(11) البحار 24: 52 / 7 و54 / 16.

(12) ينظر: الرسائل الأحمدية، ج1, ص141.

(13) سورة المائدة: آية 3.

(14) سورة آل عمران: آية 164.

(15) ينظر: لسان العرب، ج13, ص401.

(16) ينظر: مقاييس اللغة – ابن فارس- ج5, ص302.

(17) ينظر: لسان العرب، ج13, ص401.

(18) تفسير الميزان – محمد حسين الطباطبائي- 18: 310.

(19) سورة الأنبياء: آية 35.

(20) سورة الأعراف: آية 168.

(21) سورة التغابن: آية 15.

(22) سورة الأنفال: آية 28.

(23) ينظر: لسان العرب , 4: 424.

(24) التبيان في تفسير القرآن – الشيخ الطوسي – 9: 456.

(25) سورة الضحى: آية 11.

(26) التبيان في تفسير القرآن – الشيخ الطوسي – 10: 370.

(27) سورة إبراهيم: آية 7.

(28) سورة النمل: آية 19.

(29) سورة النمل: من الآية 40.

(30) سورة الإسراء: آية 3.

(31) سورة النحل: آية 120.

(32) سورة القمر: آية 33 و35.

(33) التبيان في تفسير القرآن – الشيخ الطوسي- 9: 456.

(34) سورة الزخرف: آية 15.

(35) سورة عبس: آية 17.

(36) سورة الإنسان: آية 3.

(37) ينظر: معجم مقاييس اللغة – ابن فارس-: ص931 , المفردات في غريب القرآن- الأصفهاني-: 433 – 435 , الكليات – الكفوي-: ص763.

(38) سورة يونس: آية 58.

(39) سورة الضحى: آية 11.

(40) الذنوب الكبيرة - السيد عبد الحسين دستغيب - 2: 350.

(41) معاني الأخبار – الشيخ الصدوق -: ص270.

(42) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – 6: 221.

(43) سورة النحل: آية 112.

(44) سورة القصص: آية 76 الى 81.

(45) سورة سبأ: آية 15 الى 17.

(46) سورة سبأ: آية ش19.