الخَلطُ الَّذِي يُعَاني مِنهُ البَعضُ بَينَ "التَّقِيَّةِ" و"الكَذِبِ" و "النِّفاقِ" .

:

 يُعَانِي البَعضُ مِن غُربةٍ حَقِيقيَّةٍ في إِدراكِ الـمَفاهيمِ الإِسلاميَّةِ،  فَتَراهُ يَخلِطُ  بَينَ مَفاهِيمَ مِثلِ:"التَّقِيَّةِ" و"الكَذِبِ" و"النِّفاقِ" ويَحسَبُ أَنَّ الكُلَّ بِمَعنىً واحدٍ، والحالُ أَنَّ بَينَ هذِهِ الـمَفاهيمِ تَباينٌ واضِحٌ ولها أَحكامٌ في الشَّريعةِ يَختلِفُ بَعضُها عَنِ البَعضِ الآخَرِ، فلِنُقَدِّمَ لهُ هذا الدَّرسَ الـمَجَّانيَّ، ومِن كُتُبِهِ خاصَّةً حتَّى يَعرِفَ الفَرقَ بَينَ هذهِ الـمَفاهيمِ ويَتَخَلَّصَ مِن حالةِ الغُربةِ التِّي يَعِيشُها عَنِ الدِّينُ ومَفاهِيمِهِ.

 تُعَرَّفُ "التَّقِيَّةُ" في كُتُبِ اللُّغَةِ بالحَذَرِ والحِيطَةِ مِنَ الضَّرَرِ، والٱسمُ: التَّقوَى، وأَصلُها: إِوتَقَى، يُوتَقي، فقُلِبَتِ الواوُ إِلى ياءٍ؛ لِلكسرةِ قَبلَها، ثُمّ أُبدِلَت إِلى تاءٍ وأُدغُمَت، فقُيلَ: ٱتَّقى، يَتَّقي [تاجُ العَروسِ لِلزُّبَيديِّ ١٠: ٣٩٦ ـ « وقي »].

وفي الاصْطلاحِ، قالَ ٱبْنُ حَجَرِ الشَّافِعيّ: «التَّقِيَّةُ: الحَذَرُ مِن إِظهارِ ما في النَّفسِ. مِن مُعتَقَدٍ وغَيرِهِ. لِلغيرِ» [فَتحُ الباري بشَرحِ صَحيحِ االبُخار، ٱبْنِ حَجَرٍ العَسقَلانيّ ١٢: ١٣٦].

وعَنِ الآلُوسيّ الحَنبليّ في تَفسير قولهِ تعالى: (إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) آل عِمرانَ:28: «وفي الآيةِ دَليلٌ على مَشرُوعيَّةِ التَّقِيَّةِ وعَرَّفُوها بُـمُحافظةِ النَّفسِ أَوِ العِرضِ، أَوِ الـمَالِ مِن شَرِّ الأعداءِ».

وعَرَّفَها الشَّيخُ الـمَراغيُّ المِصريُّ بقولهِ: « التَّقِيَّةُ، بأَن يَقولَ الإِنسانُ، أَو يَفعلُ ما يُخالفُ الحقَّ؛ لِأَجلِ التَّوَقُّي مِن ضَرَرِ الأَعداءِ، يَعودُ إِلى النَّفسِ، أَوِ العِرضِ، أَوِ الـمَالِ». [تَفسيرُ الـمَراغيّ: ٣: ١٣٧].

وفي هَذا الجانبِ قالَ ٱبْنُ تَيمِيَّةَ في "مَجمُوعِ الفَتاوى": (فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقصِدْ بِقَلبِهِ السُّجُودَ لَهُ بَلْ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ بِقَلبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفراً وَقَدْ يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَينَ مُشرِكِينَ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفسِهِ فَيُوَافِقُهُم فِي الفِعلِ الظَّاهِرِ وَيَقصِدُ بِقَلبِهِ السُّجُودَ لِلَّهِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ بَعضَ عُلَمَاءِ الـمُسلِمِينَ وَعُلَمَاءِ أَهلِ الْكِتَابِ فَعَلَ نَحوَ ذَلِكَ مَعَ قَومٍ مِنَ الـمُشرِكِينَ حَتَّى دَعَاهُم إلَى الإِسلَامِ فَأَسلَمُوا عَلَى يَدَيهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مُنَافَرَتَهُم فِي أَوَّلِ الأَمرِ).إِنتَهَى

[مَجموعُ الفَتاوى 14: 120].

وهُنا نَجِدُ ٱبْنَ تَيمِيَّةَ يُبِيحُ السُّجُودَ لِلأَوثانِ تَقِيَّةً.

وهَا هُنا سُؤالٌ: هَلِ التَّقِيَّةُ تَختَصُّ بِالتَّقِيَّةِ مِنَ الكافِرينَ أَو تَشمُلُ الـمُسلِمِينَ أَيضَاً، بِحَيثُ يَجوزُ على الَمُسلِمُ أَن يَتَّقِيَ مِنَ الـمُسلِمِ إِذا خَشِيَ على نَفسِهِ أَو مَالِهِ أَو عرضِهِ مِنَ الهَلاكِ ؟!

الجَوَابُ: قالَ الفَخرُ الرَّازيُّ في تَفسِيرِ قولهِ تعالى: (إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةٍ): ظاهِرُ الآيةُ يَدُلُّ على أَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّما تَحِلُّ مَعَ الكُفَّارِ الغالِبِينَ، إِلَّا أَنَّ مَذهَبَ الشَّافِعِيّ _ رَضِيَ ٱللهُ عَنهُ_: أَنَّ الحالةَ بَينَ الـمُسلِمِينَ إِذا شاكَلَتُ الحالةُ بَينَ الـمُسلِمِينَ والكافِرينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنِ النَّفسِ، وقالَ: التَّقِيَّةُ جائِزةٌ لِصَونِ النَّفسِ، وهَلْ هي جائِزةٌ لِصَونِ الـمَالِ؟ يُحتَمَلُ أَن يَحكُمَ فِيها بالجَوازِ لِقولهِ(ص): (حُرمةُ مَالِ الـمُسلمِ كَحُرمةِ دَمِهِ)، وقَولِهِ(ص): (مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهُو شَهِيدٌ). [مَفاتِيحُ الغَيبِ، لِلفَخرِ الرَّازيّ 8: 13].

وعَنِ الـمَرَاغِيّ في تَفسِيرِ قولهِ تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِٱللهِ مِنْ بَعْدِ إِيِمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيِمَانِ): ويَدخُلُ في التَّقِيَّةِ مُداراةُ الكَفَرَةِ والظَّلَمَةِ والفَسَقَةِ، وإِلَانَةُ الكَلامِ لهُم، والتَّبَسُّمُ في وُجُوهِهِم، وبَذلُ الـمَالِ لهُم؛ لِكَفِّ أَذاهُم؛ وصِيانةِ العِرضِ لهُم، ولَا يُعَدُّ هَذا مِنَ الـمُوالاةِ الـمَنهِيّ عَنها، بَل هُو مَشرُوعٌ، فقدْ أَخرَجَ الطَّبرَانيُّ قولَهُ(ص): (ما وَقَى الـمُؤمِنُ بهِ عِرضَهُ فهُو صَدَقَةٌ) والظُّلمُ. [تَفسِيرُ الـمَرَاغيّ 3: 136].

وقالَ الآلُوسيّ: «وَعدُ قَومٍ مِن بابِ التَّقِيَّةِ مُداراةُ الكُفَّارِ والفَسَقَةِ والظَّلَمَةِ وإِلَانًةِ الكَلامِ لهُم، والتَّبَسُّمُ في وُجُوهِهِم، والٱنْبِساطُ مَعهُم، وإِعطاؤُهُم؛ لَكَفِّ أَذاهُم؛ وقَطعِ لِسانِهم وصِيانَةِ العِرضِ مِنهُم، ولا يُعَدُّ ذلكَ مِن بابِ الـمُوالاةِ الـمَنهِيِّ عَنها بَل هِي سُنَّةٌ وأَمرٌ مَشرُوعٌ».

[رُوحُ الـمَعانِي، الآلُوسيّ ٣: ١٢١].

سُؤالٌ: هَل تَختصُّ التَّقِيَّةُ بزَمانٍ مُعَيَّنٍ أَو أَنَّها تَستمِرُّ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ يَضطَرُّ الـمُسلمُ إِليهَا؟!

الجَوَابُ: قالَ القُرطبيُّ في بيانِ قولهِ تعالى: (إِلَّا مَن أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) النَّحلُ:106: قالَ الحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جائِزةٌ لِلإِنسانِ إِلى يومِ القِيامةِ... أَجمَعُ أَهلُ العِلمِ على أَنَّ مَن أُكرِهَ حتَّى خَشِيَ على نَفسِهِ القَتلَ إِنَّهُ لا إِثمَ عليهِ إِن كَفَرَ وقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمَانِ ولا تَبينُ مِنهُ زَوجتُهُ ولا يُحكَمُ عليهِ بالكُفرِ، هذا قولُ مالِكٍ والكُوفيِّينَ والشَّافِعيّ. [الجامِعُ لِأَحكامِ القُرآنِ 4: 57].

 التَّقِيَّةُ في السُّنَّةِ الشَّريفةِ: 

1- ذَكَرَ  ٱبْنُ هُشام في "السِّيرةِ النَّبَوِيَّةِ"، ص652: (وكانَ رَسولُ ٱللهِ "ص" لا يُحِلُ بِمكَّةَ ولا يُحرِّمُ، مَغلُوباً على أَمرِهِ). إِنتَهَى 

 وهذهِ تَقِيَّةٌ واضِحةٌ ذَكَرَهَا ٱبْنُ هُشَام عَنِ النَّبِيّ (صَلَّى ٱللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ) في التَّبليغِ، حيثُ كانَ يَخشَى مِن قُريش فكانَ لا يَنطِقُ بأَنَّ هذا حلالٌ أَو هذا حرامٌ، وهذهِ التَّقِيَّةُ في التَّبليغِ ٱسْتَمَرَّت حتَّى في الـمَدينةِ كما يُشيرُ إِليهِ ٱبٍنُ قُتَيبَة الدَّينُوريّ في كتابهِ "الـمَسائلُ والأَجوبةُ في الحَديثِ والتَّفسِيرِ"، حيثُ قالَ في ص 22: ( 75- سألتُ عَن قولِ ٱللهِ (عَزَّ وَجَلَّ): {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِليكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفعَلْ فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ}. والَّذِي عِندِي في هذا أَنَّ فيهِ مُضمَراً يُبَيِّنُهُ ما بَعدَهُ، وهُو أَنَّ رَسولَ ٱللهِ كانَ يَتَوَقَّى بَعضَ التَّوَقِّي، ويَستَخفِي بِبَعضِ ما يُؤمَرُ بهِ على نَحوِ ما كانَ عليهِ قَبلَ الهِجرةِ). إِنتَهَى

هذا بالنِّسبةِ لِلتَّقِيَّةِ الَّتي كانَ يُمارسُها رَسولُ ٱللهِ (صَلَّى ٱللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ) في التَّبليغِ، سَواءً مَعَ الكافرينَ عِندَما كانَ في مَكَّةَ أَو التَّقِيَّةُ خَشيَةَ الـمُنافِقِينَ في الـمَدينةِ.

2- أَخرَجَ البُخاريُّ في صَحيحهِ بَسندهِ، عَنِ الأَسودِ بْنِ يَزيدَ، عَن عائِشةَ، قالتْ: (سألتُ النَّبِيَّ (صَلَّى ٱللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، عًنِ الجِدارِ [الـمُرادُ بهِ حَجَرُ الكَعبةِ الشَّريفةِ] أَمِنَ البَيتِ هُو؟

قالَ: نَعَمْ.

فقُلتُ: فمَا لهُم لم يُدخِلوهُ في البَيتِ؟

قالَ: إِنَّ قَومَكَ قَصُرَت بِهِمُ النَّفَقَةُ.

قُلتُ: فما شًأنُ بابهِ مُرتَفِعاً؟

قالَ: فَعَلً ذلكَ قُومُكَ؛ لِيُدخِلوا مَن شَاءٌوا ويَمنَعُوا مًن شَاءُوا، ولولا أَنًّ قَومَكً حَديثِي عَهدٍ بالجَاهِليَّةِ فأخافُ أَن تُنكِرَ قُلُوبُهُم أَن أُدخِلَ الجِدارَ في البَيتِ وأَن أُلصِقَ بابَهُ في الأَرضِ) [صَحيحُ البُخاريّ 2: 190، 1584 كتابُ الحَجِّ، بابُ فَضلِ مَكَّةَ وبُنيانِها].

وهذِهِ تَقِيَّةٌ واضِحةٌ مِن قُرَيشٍ الَّتي أَسلمَت حَديثاً بأَن يَفعلَ النَّبِيُّ (صَلَّى ٱللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ) خِلافَ مًا كانُوا عليهِ فَتُنكِرُهُ قُلُوبُهُم، وإِن كانً ما يَفعلُهُ هو الحَقُّ الـمُبينُ.

قَد تَقولُ: وهَل يُمكِنُ أَن يَخافَ الأَنبياءُ مِنَ النَّاسِ فلا يُظهِرُوا الحَقًّ أَمَامَهُم؟!

قالَ ٱبْنُ العَربيّ في "أَحكامِ القُرآنِ"2: 514: عِندَ التَّعرُّضِ لقولهِ تعالى: {إِذْ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: (الـمَسأَلةُ الخامِسةُ: وفي هذِهِ الآيةِ دَليلٌ على جَوازِ الفِرارِ مِن خَوفِ العَدُوِّ وتَركِ الصَّبرِ على ما يَنزِلُ مِن بلاءِ اللهِ وعَدَمِ الإِسْتِسلامِ الـمُؤَدِّي إِلى الآلامِ والهُمومِ وأَن لا يُلقِي بِيَدِهِ إِلى العَدُوِّ تَوَكُّلاً على اللهِ ولو شاءً رَبُّكُم لَعَصَمَهُ مع كونِهِ مَعَهُم ولكنَّها سُنَّةُ الأَنبياءِ وسِيرةُ الأُمَمِ حَكَمَ ٱللهُ بها؛ لِتَكونَ قُدوةً لِلخلقِ وأُنموذَجاً في الرِّفقِ وعَمَلاً بالأَسبابِ). إِنتَهَى 

فالخَوفُ مِنَ الأَعداءِ هو سُنَّةُ الأَنبياءِ وسِيرةُ الأُمَمِ حَكَمَ ٱللهُ بها؛ لِتَكونَ قُدوةً لِلخلقِ وأُنموذَجاً في الرِّفقِ وعَمَلاً بالأَسبابِ على حَدِّ قَولِ ٱبْنِ العَرَبيِّ.

3-أَخرَجَ البُخاريّ مِن طريقِ قُتَيبة بْنِ سًعيدٍ، عَن عُروةَ بْنِ الزُّبيرِ، أَنًّ عائِشةَ أَخبَرتُهُ أَنَّ رَجُلاً ٱسْتأذَنَ في الدُّخُولِ إِلى مَنزلِ النَّبِيّ فقالَ (صَلَّى ٱللهُ عَليهِ وآلهِ وسَلَّمً): ٱئْذَنُوا لهُ فبِئس ٱبْنُ العَشيرةِ، أَو بِئسَ أَخُو العَشيرةِ، فلمَّا دَخَلً أَلَانَ لهُ الكَلامُ، فقُلتُ لهُ: يا رَسولَ ٱللهِ! قُلتُ ما قُلتُ: ثم أَلَنتُ لهُ في القَولِ؟ فقالَ: أَيْ عائِشةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنزِلَة عند الله مَن تَرَكَهُ أَو وَدَّعَهُ النَّاسُ ٱتِّقَاءَ فُحشِهِ. [صَحيحُ البُخاريّ 8: 38 كِتابُ الإِكراهُ، بابُ الـمُداراةِ مَعَ النَّاسِ].

وهذِهِ تَقِيًّةٌ واضِحةٌ، وهِي تَقِيَّةُ الـمُداراةِ لِلفَسَقَةِ الَّتي أَشارَ إِليهَا الـمَراغيُّ والآلُوسيُّ  آنِفَاً.

4-صَحَّ عَن أَبي هُريرةَ أَنَّهُ قالَ - ي ذلِكَ العَصر الأَوَّل الـمُسَمَّى بَخيرِ القُرونِ - حَفِظْتُ مِن رَسولِ ٱللهِ "ص" وِعائَينِ، فأمًّا أَحَدُهُما فبَثَثْتُهُ، وأَمَّا الآخرُ فلَو بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هذا البلعُومُ.

[صَحيحُ البُخاريّ 1: 38 كِتابُ العِلمِ، بابُ حِفظِ العِلمِ].

وهذِهِ تَقِيَّةٌ واضِحةٌ دَفَعَت أبا هُريرةَ إِلى كَتمِ العِلمِ الَّذي أَخَذَهُ عَن رَسولِ ٱللهِ (صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) خَشيةَ القَتلِ، فإِذا عَلِمْنا أَنَّ مَروِيَّاتِ أَبي هُريرةَ قدْ بَلَغَت بِحَسَبِ بَعضِ الإِحْصَائِيَّاتِ أَكثَر مِن خَمسَةِ الآفِ وثَلَاثُمِائَةٍ وأَربع وسَبعِينَ رُواية،ً وهِي حَصيلةُ وِعاءٍ واحِدٍ مِن وِعائَينِ عِندَهُ عَن رَسولِ ٱللهِ "ص"،  يُمكِنُ القَولُ بأَنَّ مَا كَتَمَهُ عَنِ الـمُسلِمِينَ هُو آلافُ الرُّواياتِ أيضَاً، وهذِهِ الرُّواياتُ فيها  أَحادِيثُ رَسولِ ٱللهِ "ص" وعِلمُهُ، كلُّها كتمها أَبُو هُرَيرةَ عَنِ الـمُسلِمِينَ خَشيةَ القَتلِ، فأَيُّ رُواياتٍ هذِهِ؟  ومَا هُو مَضمُونُها ؟!! سُؤالٌ يَحتاجُ إِلى إِجابةٍ واضِحةٍ مِن ذَوي الٱخْتِصاصِ !!

5-رَوَى البُخاريّ في بابِ الـمُداراةِ مَعَ النَّاسِ ويَذكرُ عًن أَبي الدًّرداءِ إِنَّا لَنُكَشِّرُ في وُجوهِ أَقوامٍ وأَنَّ قُلوبَنا لَتَلعَنُهم. [صَحيحُ البُخاريّ ج7: 102].

وهِي مِن تقية المداراة المشار إليها أيضاً.

6- جاءَ في "الـمُصنَّفِ" لٱبْنِ أَبي شَيبةَ: عَنِ النِّزالِ بْنِ سِبرةَ قالَ: دَخَلَ ٱبْنُ مَسعودٍ وحُذَيفةُ على عُثمانَ، فقالَ عُثمانُ لِحُذَيفةَ: بَلَغَني أَنَّكَ قُلتَ كذا وكذا؟

قالَ: لا واللهِ ما قلتُهُ، فلمَّا خَرَجَ قالَ لهُ عَبدُ ٱللهِ: ما لَكَ فلِمَ تَقولُهُ ما سَمِعتُكَ تَقولُ؟ قالَ: إِنِّي أَشتَري دِيني بَعضَهُ بِبَعضٍ مَخافةَ أَن يَذهَبَ كُلُّهُ. [ج7ص 643].

قالَ السَّرَخسِيُّ في "الـمَبسُوطِ": وقَد كانَ حُذَيفةُ (رَضِيَ ٱللهُ عَنهُ) مِمَّن يَستِعملُ التَّقِيَّةَ على ما رَوَى أَنَّهُ يُدارِي رَجُلاً فقِيلَ لهُ: إِنَّكَ مُنافِقٌ فقالَ: لا، ولكنِّي أَشتَري دِيني بَعضَهُ بِبَعضٍ مَخافةَ أَن يَذهَبَ كُلُّهُ.

 وفي مَوضعٍ آخرَ مِنَ الـمَبسُوطِ عَلَّقَ السَّرَخْسِيُّ قائِلاً: إِنَّ حُذَيفةَ (رَضِيَ ٱللهُ عَنهُ) مِن كِبارِ الصَّحابةِ وكانَ بَينَهُ وبَينَ عُثمانَ (رَضِيَ ٱللهُ عَنهُ) بَعضَ الـمُداراةِ، فكانَ يَستَعملُ مَعارِيضَ الكلامِ فيما يُخبرُهُ بهِ ويَحلِفُ لهُ عليهِ، فلمَّا أُشكِلَ على السَّامِعِ سَأَلَهُ عَن ذلكَ فقالَ: إِنَّي أَشتَري دِيني بَعضَهُ بِبَعضٍ يَعني أَستَعملُ مَعاريضَ الكلامِ على سبيلِ الـمُداراةِ. إِنتَهَى [أُنظُرْ: الـمَبسُوطَ لِلسَّرَخْسِي24ّ: 46،  30: 214].

وجاءَ في "تَهذيبِ الكَمالِ" لِلمُزِّيّ: عًن بِلالِ بْنِ يَحيىٰ: بَلَغَني أَنَّ حُذَيفةَ كانَ يَقولُ: ما أَدركَ هذا الأَمرَ أَحَدٌ مِن أَصحابِ النَّبِيّ (صَلَّى الله عليه وسَلَّمَ) إِلَّا قدِ ٱشْترى بَعضَ دِينِهِ بِبَعضٍ، قالُوا: فأَنتَ؟ قالً: وأًنا وٱللهِ إِنِّي لأَدخَل على أَحَدِهِم، وليسَ مِن أَحَدٍ إِلَّا وفيهِ مَحاسِنُ ومَساوِئُ، فأَذكُرُ مِن مَحاسِنِهِ، وأُعرِضُ عَن ما سُوى ذلكَ، ورُبَّما دَعاني أَحَدُهُم إِلى الغَداءِ، فأَقولُ: إِنِّي صَائِمٌ، ولَستَ بِصائِمٍ.

[تَهذيبُ الكَمالِ 5: 509].

فهَذِهِ بَياناتٌ واضِحةٌ في التَّقِيَّةِ يَشهَدُ بِهَا حُذَيفةُ على نَفسِهِ وعلى كُلِّ الصَّحابَةِ.

تَقِيَّةُ خُلفاءِ وعُلماءِ أَهلِ السُّنَّةِ:

1- أَبُو بَكرٍ يَتَّقي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ:

رَوَى البَيهَقي في "السُّنَنِ الكُبرى"، قالَ: (أَخبَرَنا) أُبُو الحُسَينِ بْنِ الفَضلِ القَطَّان، أَنبَأَ عَبدَ ٱللهِ بْنِ جَعفرَ، ثَنَى يَعقُوبُ بْنُ سُفيانَ، ثَنَى سُليمانُ ثَنَى عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ مُقَدَّمِ عَن هُشام بْنِ عُروةَ عَن أَبيهِ قالَ: دَخَلتُ على مُعاويةَ فقالَ لي: ما فَعَلَ الـمَسلُولُ قالَ: قلتُ هُو عِندِي فقالَ: أَنا وٱللهِ خَطَطتُهُ بِيَدَيَّ أَقطَعَ أَبُو بَكرِ الزُّبَيرِ (رَضِيَ ٱللهِ عَنهُما) أَرضاً فكُنتُ أَكتُبُها قالَ: فجاءَ عُمَرُ أَبا بَكرٍ يَعني الكتابُ فأُدِخِلُهُ في ثَنَى الفِراشِ، فَدَخَلَ عُمَرُ (رَضِيَ ٱللهُ عَنهُ)، فقالَ: كأًنَّكُم على حاجةٍ فقالَ أَبُو بَكرٍ (رَضِيَ ٱللهُ عَنهَ) نَعَمْ، فَخَرَجَ، فأَخرَجَ أَبُو بَكرٍ الكِتابَ فأَتمَمْتُهُ.إِنتَهَى[السُّنَنِ الكُبرى 6: 145].

وهَذِهِ تَقِيَّةٌ واضِحةٌ لأَبي بَكرٍ مِن عُمَرَ حينَ أَخفى عَنهُ الكِتابَ الَّذي كانَ يَكتُبُ فيهِ قِطعةَ الأَرضِ لِلزُّبَيرِ ولـمَّا خَرج عُمَرُ أَخرَجَ أَبُو بَكرٍ الكِتابَ وأَتَمَّهُ.

2-الـمَامونُ يَتَّقي أَحَدُ رَعِيَّتِهِ: رَوَى الخَطيبُ البَغداديّ في "تأريخِ بغدادَ"، قالَ: أَخبرَني الحَسَنُ بْنُ شَاذان الوَاسِطيّ - وكانً مُحَدِّثاً مِن أَحفَظِ النَّاسِ - قالَ: حَدَّثِني ٱبْنُ عُرعرةَ، قالَ: حَدَّثِني ٱبْنُ أَكثَم قالَ: قالَ لنا الـمَأمونُ: لولا مَكانَ يَزيدَ بْنِ هَارُونَ لأَظهَرَتِ القُرآنَ مَخلُوقاً.

فقالَ بَعضُ جَلسَائِهِ: يا أَميرَ الـمُؤمِنينَ ومَن يَزيدُ حتَّى يَكونَ يَتَّقِي؟ قالَ: فقالَ: ويْحكَ، إِنَّي لا أَتَّقِيهِ؛ لأَنَ لهُ سُلطاناً أو سَلطَنَةً، ولكنْ أَخافُ إِن

أَظهَرتُهُ فيَرُدُّ على، فيَختَلفُ النَّاسُ وتَكونُ فِتنَةٌ، وأَنا أَكرَهُ الفِتَنَةَ.

[تأريخُ بغدادَ 14: 343]. 

3-أَبُو حَنِيفةَ يَخافُ القاضي ٱبْنِ أَبي لَيلَى في مَسألةِ خَلقِ القُرآنِ ويُعطيهِ التَّقِيَّةَ:

رَوَى الخَطيبُ البَغداديّ في "تأريخُ بَغدادَ: قالَ: أَخبَرنا أَنَّ الفَضلِ، أَخبرَنا دَعلَجُ بْنُ أَحمَدَ، أَخبَرنا أَحمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَبارِ، حَدَّثنا سُفيانُ بْنُ وَكيعٍ قالَ: جاءَ عُمَرُ بْنُ حَـمَاد بْنِ أَبي حَنيفةٍ، فجَلَسَ إِلينا، فقالَ: سَمِعتُ أَبي حَمَّاد يَقولُ: بَعَثَ ٱبْنُ أَبي لَيلَى إِلى أَبي حَنيفةَ فسَألهُ عَنِ القُرآنِ.

فقالَ: مخلوق، فقالَ: تَتُوبُ وإِلَّا أَقدَمتُ عليكَ؟ قالَ: فتَابَعَهُ، فقالَ القُرآنُ كلامُ ٱللهِ، قالَ: فدارَ بهِ في الخَلقِ يُخبرُهُم أَنَّهُ قَد تَابَ مِن قولهِ القُرآنُ مَخلوقٌ. فقالَ أَبي: فقلتُ لأَبي حَنيفةَ كيفَ صِرتَ إِلى هذا وتابَعتُهُ؟ قالَ: يا بُنَيَّ خِفتُ أَن يَقدِمَ عَلَّيّ فأَعطَيتُهُ التَّقِيَّةَ.

[تأريخ بغداد 13: 377]

4-عَلِيُّ بْنُ الـمَدينيّ يَتَّقِي قاضِيَ القُضاةِ ٱبْنَ أَبي داوُودَ ويَقولُ بَخلقِ القُرآنَ: 

وهذا عَلِيُّ بْنُ الـمَدينيّ الًّذي قالَ في حَقِّهِ البُخاريُّ: ما ٱسْتَصغَرتُ نَفسي عِندَ أَحَدٍ إِلَّا عِندَ عَلِّيِّ بْنِ الـمَدينيّ، يَقولُ ٱبْنُ الجَوزيّ في "الـمُنتَظمِ في تأريخِ الـمُلُوكِ والأُمَمِ": (والَّذي مَنَعَ ٱبْنُ الـمَدينيّ مِنَ التَّمامِ إِجابتُهُ في خَلقِ القُرآنِ ومَيلهِ إِلى ٱبْنِ أَبي دَاوُودَ؛ لأَجلِ حُطامِ الدُّنيا، فلمْ يَكفِهِ أَن أَجابَ فكانَ يَعتذِرَ لِلتَّقِيَّةِ، وصارَ يَتردَّدُ إِلى ٱبْنِ أَبي داوُود ويَظهرُ لهُ الّمُوافَقًة). إِنتَهَى

5- تَقِيَّةُ ٱبْنِ تَيمِيَّة ويَتكلمُ بِخلافِ ما يَعتقِدُ بهِ خَوفاً على نفسِهِ: 

نَقَلَ العَلَّامةُ تَقِيُّ الدِّينِ الحَصنيّ الشَّافعيّ في كتابهِ دَفعُ الشُّبَهِ عَنِ الرَّسُولِ"ص" عَنِ الـمُؤَرِّخِ ٱبْنِ شاكرٍ (الـمُتَوَفَّى 764 هـ)، أَنَّهُ ذَكَرَ في الجُزءِ العِشرينَ، قالَ:  وفي سَنَةِ خَمسٍ وسَبعِمائةٍ في ثامِنِ رَجَب، عُقِدَ مَجلسٌ بالقَضاةِ والفُقهاءُ بَحضرةِ نائِبِ السَّلطَنَةِ بالقَصرِ الأَبلَقِ، فَسُئِلَ ٱبْنُ تَيمِيَّةَ عَن عَقِيدتِهِ؟ فأَملَى شَيئاً مِنهَا.

ثُمَّ أُحضِرَت عَقِيدتُهُ الواسِطيَّةُ، وقُرِئَت في الـمَجلسِ، ووَقَعَت بُحُوثٌ كَثيرةٌ، وبَقِيَت مَواضِعُ أُخِّرَت إِلى مَجلسٍ ثانٍ، ثُمَّ ٱجْتَمَعُوا يومَ الجُمُعَةِ ثانيَ عَشَرَ رَجَب.

وحَضَرَ الـمَجلسُ صَفِيُّ الدِّينِ الهِندِيُّ، وبَحثُوا، ثُمَّ ٱتَّفَقُوا على أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بْنِ الزَّمَلكَانِيّ يُحَاقِقُ ٱبْنَ تَيمِيَّةَ، ورَضُوا كُلُّهُم بذلكَ، فأَفحَمَ كَمَالُ الدِّينِ ٱبْنَ تَيمِيَّةَ، وخَافَ ٱبْنُ تَيمِيَّةَ على نَفسِهِ، فأَشهَدَ على نَفسِهِ الحاضِرينَ أَنَّهُ شافِعِيُّ الـمَذهَبِ، ويَعتَقِدُ بِما يَعتَقِدُهُ الإِمامُ الشَّافِعيُّ، فَرَضُوا مِنهُ ذلِكَ وٱنْصَرفوا. إِنتَهَى [دَفعُ الشُّبَهِ عَنِ الرَّسُولِ ص: 71]. 

هذا كُلُّهُ فِيما يَتَعَلَّقُ بالتَّقِيَّةِ، وقَد وجَدنا مُستَنَدَها كِتاباً وسُنَّةً وفِعلُ الصَّحابةِ وأَفعالُ عُلَماءِ أَهلِ السُّنَّةِ وخُلَفائِهِم، فلِماذا يُشَنِّعُ البَعضُ على الشِّيعةِ حِينَ يَجِدُ مِنهُم قًولاً أًو فِعلاً يَصدُرُ مِنهُم تَقِيَّةً ؟!!

إِنَّها حالةٌ غريبةٌ واقعاً وتًدعُو لِلشَّفَقَةِ.. مع أَنَّ الظُّلمَ الَّذي طالَ الشِّيعةَ في العَهدَينِ الأُمَويّ والعَبَّاسيّ، بَل في بَقِيَّةِ العُهُودِ، الأَمرُ الَّذي دَعاهُم إِلى التَّصَرُّفِ تَقِيَّةً خَوفاً على أَنفُسِهِم وأَموالِهِم وأَعراضِهِم، مِمَّا لا يَخفَى على أَحَدٍ.

أَمَّا الكَذِبُ فلهُ مَعنىً آخرُ غَيرُ التَّقِيَّةِ، قالَ النًّوويُّ: الكَذِبُ: (الإِخبارُ عَنِ الشَّيء على خِلافِ ما هُو، عَمَدَاً كانَ أَو سَهواً، سَواءٌ كان الإِخبارَ عَن ماضٍ أَو مُستَقبلٌ) [شَرحِ النَّوَوِيّ على مُسلِمٍ 16: 57].

وهَذا الكَذِبُ مِنهُ مَا هُو جائِزٌ شَرعاً بل واجِبٌ بضَرُورةِ الـمُسلِمِينَ وخاصَّةً في مَوارِدِ الإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ وحِفظِ النَّفسِ الـمُؤمنةِ ومِنهُ ما هُو مُحرَّمٌ.

جاءَ في "بَحرِ الفَوائِدِ" لِلكَلاباذِيِّ البُخَارِيّ: ((حَدِيثٌ مَرفوعٌ) فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ): "لا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلا فِي ثَلاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ ٱمْرَأَتَهُ لِيُرضِيَهَا، وَالكَذِبُ فِي الحَربِ، وَالكَذِبُ لِيُصلِحَ بَينَ النَّاسِ"، حَدَّثَنَاهُ نَصرُ بْنُ فَتحٍ، قَالَ. ح أَبُو عِيسَى، قَالَ. ح مَحْمُودُ بْنُ غَيلانَ، قَالَ. ح بِشرُ بْنُ السَّرِيّ، وَأَبُو أَحمَدَ، قَالَ. ح سُفْيَانُ، عَنِ ٱبْنِ خُثَيمٍ، عَنْ شَهرِ بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسمَاءَ بِنتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ): "لا يَحِلُّ الكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلاثٍ"، وَذَكَرَ الحَدِيثَ، فَأَخبَرَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ)، أَنَّ الْكَذِبَ يَحِلُّ فِي الحَربِ، وَإِصْلاحِ ذَاتِ البَينِ، وَبَينَ الـمَرأَةِ وَزَوجِهَا، وَالدَّفعِ عَنِ الدِّينِ أَكبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالكَذِبُ فِي الحَربِ مِنْ جِهَةِ الدَّفعِ عَنِ الدِّينِ، وَفِي بَعضِ الرِّوَايَاتِ" لَمْ يَكذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ السَّلامُ، إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُمَاحِلُ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا الْكَذِبُ حَلالٌ".

[ بَحرِ الفَوائِدِ الـمُسَمَّى بِمَعَاني الأَخيارِ 1: 520].

بَل وَجدَنا مِن أَهلِ السُّنَّةِ مَن يُجوِّزُ الكَذِبَ في تَحقِيقِ الأَهدافِ والغاياتِ في حالةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بالغَيرِ.

قالَ ٱبْنُ القَيِّمِ في "زادِ الـمَعادِ" ج 2 ص 145: (يَجوزُ كَذِبُ الإِنسَانِ على نَفسِهِ، وعلى غَيرِهِ إِذا لَمْ يَتَضَمَّنُ ضَرَرَ ذلكَ الغَيرِ إِذا كانَ يَتَوَصَّلُ بالكَذِبِ إِلى حَقِّهِ). إِنتَهَى

وأَمَّا النِّفاقُ فهُو يُبايِنُ الكَذِبَ والتَّقِيَّةَ مَفهُوماً أيضَاً، فالنِّفاقُ هُو إِظهارُ الحقِّ على اللِّسَانِ وإِضمارُ الباطلِ. وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّقِيَّةِ هِي إِظهارٌ الباطلِ وإِضمارُ الحَقِّ.. فبَينَ الـمَفهُومَينِ تَبَايُنٌ واضِحٌ، والكَذِبُ بِخِلافِهِمَا كمَا تَقَدَّمَ تَفصيلُهُ، والكَذِبُ الـمُحَرَّمُ والنِّفاقُ يَأثَمُ صَاحِبُهُما، بَينَما التَّقِيَّةُ هِي رُخصَةٌ أَجازَ الشَّرعُ لِصاحِبها التَّخلُّصَ مِن حالةِ الخَطَرِ الَّتي تُداهِمُهُ.

فهَذِهِ الـمَفَاهِيمُ الثَّلاثَةُ يُوجَدُ بَينَها ٱخْتِلافٌ  واضِحٌ، ومَن يُصِرُّ على تَعوِيمِ الـمَفاهِيمُ وٱعْتِبارُ التَّقِيَّةُ كَذِباً مُحرَّماً ونِفاقاً، نَقُولُ لهُ: إِذا كان كذلِكَ فَعَليكَ أَن تَحكمَ بالكَذِبِ الـمُحرَّمَ والنِّفاقُ على  القُرآنِ الكَريمِ الَّذي أَجازَ لِعَمارِ بْنِ ياسر أَن يَنطِقَ بكَلِمَةٍ الكُفرِ في قولهِ تعالى:  (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) النَّحل: 106، أَو في تَشريعِهِ لِلتَّقِيَّةِ بقولهِ: ( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) آلُ عُمرَانَ: 28، وكذلِكَ على النَّبِيِّ (صَلَّى ٱللهُ عَليهِ وآلهِ وسَلَّمَ) حينَ كانَ يَتَّقِي في مَكَّةَ والـمَدِينةِ بِـمَا تَقدَّمَ بَيانُهُ مِنِ ٱبْن هُشام وٱبْنِ قُتَيبةَ الدَّينُوريّ والبُخاريِّ، وكذلِكِ على حُذَيفةَ بْنِ اليَمانِ وعلى بَقِيَّةِ الصَّحابَةِ الَّذينَ أَشارَ إِليهِم حُذَيفةُ في كلامِهِ الـمُتَقَدَّمِ، وكذلِكَ على  أَبي بَكرٍ لِتَقِيَّتِهِ مِن عُمَرَ، وعلى الـمَأمونِ لِتَقِيَّتِهِ مِن أَحَدِ رَعَيتُهُ، وعلى أَبي حَنِيفَةً لتقيته في مَوضُوعٍ خَلقِ القُرآنِ، وعلى  عَلِيِّ بْنِ الـمَدِينيّ، وعلى إبْنِ تَيمِيَّة حِينَ خافً على نفسِهِ، فهَؤلاءِ كُلُّهُم مارسَوا التَّقِيَّةَ، فَعَليكَ أَن تَحكمَ عَليهِم بالكَذِبِ الـمُحرَّمِ والنِّفاقِ، وهَذا لَا يَقُولُ بهِ مُسلِمٌ قَطُّ.