هل الله سبحانه وتعالى خيرنا بأن نكون بشرًا؟

أحيانًا تمر بيّ أوقات صعبة وأكون مجبورة أقاوم وما أنسحب، فأسأل نفسي ليش آني مجبورة أن أتحمل المعاناة بهذه الدنيا وآني مو مختارة أن أعيش بيها..!

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  بعضُ الناسِ يشغلونَ أنفسَهم بأسئلةٍ غيرِ منطقيّة، ومِن ثمَّ يسترسلونَ معها حتّى تُحدثَ لهم اضطراباً في التفكيرِ وتشويشاً في الرؤيةِ، فالإنسانُ يفهمُ الحياةَ مِن خلالِ الموقعِ الذي يرى فيهِ نفسَه، فمَن لا يرى لوجودِه قيمةً ولا لفعلِه أهميّةً سيكونُ عُرضةً للإحباطِ والانهزامِ أمامَ صعوباتِ الحياة، بعكسِ الإنسانِ الذي يرى لحياتِه قيمةً ولفعلِه تأثيراً وأهميّةً، فإنَّ هذا الإنسانَ لا يستسلمُ لصعوباتِ الحياةِ وإنّما يرى فيها تحدّياً لإثباتِ ذاتِه، مثلَ الرياضيّ الذي يتحمّلُ العناءَ حتّى يثبتَ قدراتِه وتميّزَه على أقرانِه، فالسعادةُ في حقيقتِها هيَ إحساسٌ عميقٌ بالذاتِ ومَن يفقدُ ذلكَ الإحساسَ يعيشُ في شقاء. وعليهِ فإنَّ السؤالَ هل اللهُ سبحانَه وتعالى خيّرَنا بأن نكونَ بشراً؟ يعبّرُ عن فقدانِ الإحساسِ بالذاتِ والشعورِ بقيمتِها، وهوَ السببُ المباشرُ لكلِّ المُعاناة والضنكِ الذي يجدُه الإنسانُ في الحياةِ، فالإنسانُ يرى الحياةَ مُغامرةً تستحقُّ العناءَ عندَما يرى في نفسِه قيمةً تستحقُّ الحياةَ، وبانعدامِ هذا الشعورِ تتحوّلُ كلُّ صعوباتِ الحياةِ إلى عقوبةٍ غير مُبرّرة، أو كما تعبّرُ السائلةُ بقولِها: (ليش آني مجبورة أن أتحمّل المُعاناةَ بهذه الدنيا) والذي يبرّرُ هذا السؤالَ هوَ الشعورُ بعدمِ وجودِ قيمةٍ للحياة، فليسَ منَ المنطقِ أن يتحمّلَ الإنسانُ العناءَ والجُهدَ ومِن ثمَّ لا يكونُ لهذا العناءِ نتيجةٌ تستحقّه، وكما يقالُ في المثلِ العربي (الأجرُ على قدرِ المشقّة) فهناكَ تناسبٌ بينَ الجُهدِ والنتيجةِ، فإذا كانَت النتيجةُ غيرَ مرضيّة لا يكونُ هناكَ دافعٌ للجُهد، ومِن هُنا مَن لا يفهمُ فلسفةَ الحياةِ وقيمتَها لا يمكنُ أن يفهمَ ما فيها مِن ابتلاءٍ ومصاعب، ولذا منَ الطبيعي أن يسألَ عن سببِ العناءِ وهوَ لم يختَر لنفسِه أن يكونَ بشراً؟ وشواهدُ الحياةِ وتجاربُها خيرُ دليلٍ على اختلافِ البشرِ في تعاملِهم معَ ظروفِ الحياةِ ومتاعبِها، فالبعضُ تجدُه في قمّةِ السعادةِ وهوَ يكابدُ صعوباتِ الحياة، بينَما البعضُ الآخرُ في قمّةِ الشقاءِ وهوَ يكابدُ نفسَ الصعوباتِ، والفرقُ يكمنُ في أنَّ الأوّلَ يرى الحياةَ ولا يرى الصعوبات، بينما الثاني يرى الصعوباتِ ولا يرى الحياةَ، فالذي يرى الحياةَ لا بدَّ أن يرى صعوباتِها مُقدّمةً طبيعيّةً لها، بينَما مَن يرى الصعوباتِ دونَ أيّ قيمةٍ للحياةِ سوفَ تكونُ الصعوباتُ عليهِ جحيماً لا يُطاق؛ لأنّها في نظرِه ليسَت إلّا عقوبةً من دونِ ذنبٍ أو جُهداً مِن دونِ ثمن.  ومنَ المؤكّدِ أنَّ هذهِ القضيّةَ تحتاجُ إلى معالجاتٍ ثقافيّة كما تحتاجُ إلى معالجاتٍ نفسيّة، فالذي يعترفُ بوجودِه ولا يعلمُ ما يعنيهِ هذا الوجود؟ أو الذي يعترفُ بكونِه إنساناً، ولكنّه لا يعلمُ ماذا يعني أن يكونَ الإنسانُ إنساناً؟ بحيثُ لو خيّرَه اللهُ قبلَ خلقِه لاختارَ أن يكونَ جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو اختارَ منَ الأساسِ أن يكونَ عدماً، فمثلُ هذا الإنسانِ بحاجةٍ إلى إعادةِ برمجةٍ شاملةٍ ثقافيّاً ونفسيّاً، ولا يتحقّقُ ذلكَ إلّا إذا هوَ قرّرَ أن يستثمرَ عقلَه وكلَّ طاقاتِه لفهمٍ حقيقيٍّ لغاياتِ الوجودِ والحياة، والدينُ وهوَ الطريقُ الحصريُّ لتحقيقِ ذلكَ الفهم، فمعرفةُ اللهِ والارتباطُ به تمثّلُ البصيرةَ التي يجتازُ الإنسانُ بها مصاعبَ الحياة، ومِن دونِ ذلكَ ستكونُ حياةُ الإنسانِ عبارةً عن ضنكٍ وشقاء، قالَ تعالى: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَىٰ) فالبصيرةُ هيَ التي تمكّنُ الإنسانَ منَ الرؤيةِ الواقعيّةِ للحياةِ ومن دونِها يفقدُ الإنسانُ دُنياه وآخرتَه.   وبالتالي الإنسانُ بينَ التفاؤلِ والتشاؤم، والإنسانُ بمقدورِه أن يختارَ واحدةً منَ الصفتين، إلّا أنَّ ذلكَ لا يكونُ إلّا بتغييرٍ شاملٍ لنمطِ الصفاتِ التي يتحلّى بها، فمُجملُ ما يتّصفُ به الإنسانُ هو الذي يُحدّدُ موقفَه منَ الحياة، فكلُّ صفةٍ يتّصفُ بها الإنسانُ هناكَ صفةٌ تقابلها، فالكرمُ يقابلهُ البُخل، والشجاعةُ يقابلها الجُبن، ولذا لا يمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مُتفائلاً وفي نفسِ الوقتِ مُتشائماً، فمَن كانَت صفاتُه إيجابيّةً فإنّه سيكونُ مُتفائِلاً بالضرورةِ، لأنَّ الإنسانَ بالأساسِ لا يكونُ إيجابيّاً إلّا إذا كانَت الحياةُ في نظرِه إيجابيّة، وفي المقابلِ كلّما غلبَت الصفاتُ السلبيّةُ كلّما اضطربَ الإنسانُ وفقدَ التوازنَ فلا يرى حينَها في الحياةِ إلّا كلَّ ما هوَ سلبي.ومِن هُنا ننصحُ الأختَ بإعادةِ التفكيرِ في الحياةِ والبحث بشكلٍ جادٍّ عن قيمتِها وقيمةِ الإنسانِ فيها، وبذلكَ يمكنُها أن تعيدَ لنفسِها زمامَ المُبادرة وتكونَ هيَ الفاعلة والمتحكّمة في الظروفِ وليسَت الظروفُ هيَ المُتحكّمة فيها.  أمّا الإجابةُ عن السؤالِ هل اللهُ خيّرَنا أن نكونَ بشراً؟  قد أجَبنا مِن قبلُ على سؤالٍ مُشابهٍ ونعيدُ بشكلٍ مُختصرٍ ما قُلناهُ سابِقاًمنَ المؤكّدِ أنَّ الإنسانَ ليسَ بحاجةٍ إلى مَن يُخبرُه بأنّه لا يملكُ هذا الاختيار، فمنَ الواضحِ أنَّ ذلكَ مُستحيلٌ لكونِه خارِجاً عن إرادةِ الإنسانِ واختيارِه، فكلُّ واحدٍ يشعرُ بذلكَ في عُمقِ وعيهِ وشعورِه، وعليهِ فمنَ العقلِ والحِكمة أن يتعاملَ الإنسانُ معَ واقعِ الحالِ الذي وُجدَ فيه، كما أنَّ هذا السؤالَ غيرُ منطقيٍّ ولا يصحُّ منَ الأساس، فهوَ يتضمّنُ خلطاً كبيراً بينَ الفعلِ الاختياريّ للعبدِ وبينَ الفعلِ التكوينيّ للخالق، والكلامُ عن فعلِ العبدِ يأتي بعدَ خلقِه ووجودِه وبلوغِه عُمراً يكونُ واعياً لأفعالِه وتصرّفاتِه، وقبلَ خلقِه كانَ عدماً محضاً لا يقعُ عليهِ الفعلُ ولا الاختيار، وعليهِ فإنَّ أيَّ أسئلةٍ واعتراضاتٍ تمتدُّ لمرحلةِ العدمِ لا تعدو أن تكونَ هرطقةً وكلاماً بلا معنى، فالقولُ لماذا خلقني الله؟ سؤالٌ يمكنُ تفهّمُه في إطارِ معرفةِ الحِكمةِ والفلسفةِ العامّةِ لوجودِه، ولكن لا يمكنُ فهمُه في إطارِ الرجوعِ إلى منطقةِ الصفرِ التي لم يكُن فيها شيئاً مذكوراً، فعندَما أقولُ مثلاً لماذا صُنعَت السيّارةُ فأنا أسالُ عن حِكمةِ وجودِها وهوَ سؤالٌ مُبرّرٌ بعدَ وجودِ السيّارة، أمّا قبلَ وجودِها لا مُبرّرَ لهذا السؤالِ منَ الأساس، وكذلكَ الإنسانُ لا يمكنُ أن يقولَ لماذا خلقني اللهُ قبلَ خلقِه لأنّها سالبةٌ بانتفاءِ الموضوع، أمّا سؤالهُ بعدَ أن أصبحَ موجوداً لا يكونُ سؤالاً منطقيّاً ومبرّراً إذا كانَ يستهدفُ نفسَ عمليّةِ الخلقِ والإيجادِ لأنَّ هذهِ المرحلةَ سابقةٌ لمرحلةِ الاختيار، إذ كيفَ يمكنُ أن يخيّروا العدمَ بينَ البقاءِ عدماً وبينَ إخراجِه إلى الوجود؟ وبالتالي مثلُ هذهِ الأسئلةِ ليسَت إلّا وساوسَ شيطانيّة تعملُ على تخريبِ حياةِ الإنسانِ لتجعلَه يعيشُ في حالةٍ منَ القلقِ والتوتّر، ولذا يجبُ على الإنسانِ ألّا يتعاملَ إلّا معَ الأسئلةِ المنطقيّةِ التي تمتلكُ مُبرّراتٍ حقيقيّةً أمّا الأسئلةُ العدميّةُ ليسَت إلّا فيروساتٍ خبيثةً تستهدفُ تخريبَ عقلِ الإنسانِ ووعيه.