ما هي مواردُ استخدامِ "التقيّة".. وهل يجوزُ استخدامُها في "السياسة"؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : معرفةُ أحكامِ التقيّةِ ومراتبها الشرعيّةِ يُشكّلُ ضابطاً كليّاً للعملِ بالتقيّةِ سواءٌ كانَ موردُ العملِ بها شأناً دينيّاً، أو سياسيّاً، أو اجتماعيّاً، أو غيرَ ذلك، وبالتالي لا يمكنُ إعطاءُ حُكمٍ كليٍّ في موردٍ منَ المواردِ فنقولُ مثلاً التقيّةُ جائزةٌ في العملِ السّياسي بشكلٍ مُطلق أو أنّها غيرُ جائزة، وإنّما كلُّ موردٍ يخضعُ للضوابطِ الشرعيّةِ للعملِ بالتقيّة.  وعليهِ فإنَّ التقيّةَ مثلها مثلُ الأحكامِ الفرعيّةِ التي يتأثّرُ حكمُها بحسبِ العنوانِ الذي يطرأ عليها، فهيَ تدورُ بينَ الوجوبِ والاستحبابِ والحُرمةِ والكراهةِ والإباحةِ، والمعيارُ في ذلكَ هوَ مقدارُ المصلحةِ والمفسدةِ المُترتّبةِ عليها، فتكونُ واجبةً إذا كانَ تركُها يؤدّي إلى فواتِ مصلحةٍ عظيمة، وعلى فعلِها مفسدةٌ جسيمة، ويشملُ ذلكَ كلَّ ضررٍ واجبٌ دفعُه، عن النفسِ، أو العرضِ، أو المالِ، أو عن الاخوانِ المؤمنينَ، بحيثُ لا يمكنُ دفعُه إلّا بالتقيّة مع مراعاةِ عدمِ تسبّبِها في فسادِ الدينِ أو المُجتمع.  أمّا التقيّةُ المُستحبّةُ هيَ التي يؤدّي تركُها إلى حدوثِ ضررٍ يمكنُ تحمّلهُ إلّا أنّه لا موجبَ لذلكَ التحمّل، مثلَ مُداراةِ المُخالفينَ ومُعاشرتِهم بالطريقةِ التي تجعلهُ آمناً مِن عداوتِهم، فمثلاً الشيعيُّ الذي يعيشُ في مجتمعٍ سُنّي بمقدورِه أن يُظهرَ ذلكَ حتّى وإن أدّى إلى مُقاطعتِه وأذيّتِه اجتماعيّاً، إلّا أنَّ المُرجّحَ هوَ مُداراتُهم طالما لم يكُن فيها فسادٌ لدينِه.  أمّا إذا كانَت المصلحةُ متساويةً في نظرِ الشرعِ بينَ العملِ بالتقيّةِ وتركِها فالتقيّةُ مُباحةٌ، فمثلاً لو أكرِهَ الإنسانُ وهُدّدَ بالقتلِ إذا لم يُظهِر الكُفرَ وكانَ في عدمِ إظهارِ الكُفرِ مصلحةٌ للإسلامِ فحينَها يجوزُ له تقديمُ مصلحةِ نجاتِه فيتّقي كما فعلَ عمّارٌ بنُ ياسر، أو يقدّمَ مصلحةَ الإسلامِ فيُقتلَ كما فعلَ حجرٌ بنُ عدي، ورشيدٌ الهجري، وميثمٌ التمّار رضوانُ اللهِ تعالى عليهم. أمّا المُحرّمةُ فعلى خلافِ الواجبةِ وهيَ ما يترتّبُ على تركِها مصلحةٌ عظيمة، وعلى فعلِها مفسدةٌ جسيمة، وقد صرّحَ الفقهاءُ بحُرمةِ التقيّةِ في مجموعةٍ منَ الموارد، مثلَ أن تكونَ التقيّةُ سبباً في جلبِ الضررِ الجسيمِ للآخرين، حيثُ لا يجوزُ أن يجعلَ الإنسانُ نجاتَه في هلاكِ غيرِه في دمائِهم أو أعراضِهم أو مالِهم، وكذلكَ يحرّمُ على الفقيهِ أن يتّقي مِن ضررٍ يصيبُه فيُفتي بخلافِ الشرع، فيتسبّبُ في إضلالِ المُكلّفينَ، فلا يجوزُ له في هذهِ الحالةِ العملُ بالتقيّةِ حتّى وإن أدّى ذلكَ إلى قتلِه، ونفسُ الأمرِ ينطبقُ على القاضي فلا يجوزُ أن يحكُمَ ظُلماً على المُتّهمِ فيتسبّبُ في إضرارِه لنجاةِ نفسِه، وهكذا تتعدّدُ أمثلةُ التقيّةِ المُحرّمةِ بحيثُ تشملُ كلّ تقيّةٍ تؤدّي إلى الإضرارِ بالدينِ أو المُجتمع، وقد بيّنَ الفقهاءُ مجموعةً منَ الشروطِ والمعاييرِ الدقيقةِ في مواردِ استخدامِ التقيّة. أمّا التقيّةُ المكروهةُ فقد مثّلَ لها بعضُهم بإتيانِ ما هوَ مُستحبٌّ عندَ المُخالفينَ ومكروهٌ عندَنا معَ عدمِ الخوفِ منَ الضررِ عاجلاً أو آجلاً، أمّا مع احتمالِ الضررِ يكونُ العملُ بالتقيّةِ مُستحبّاً، وفي حالِ كانَ المُستحبُّ عندَهم حراماً عندَنا فإنَّ التقيّةِ بفعلِه حرام. وفي المُحصّلةِ الضابطُ في كلِّ ذلكَ مراعاةُ نوعِ المصلحةِ المُترتّبةِ على فعلِ التقيّة وعدمِها، فإن كانَت المصلحةُ ممّا يجبُ حفظُها فالتقيّةُ فيها واجبةٌ، وإن كانَت المصلحةُ مساويةً لمصلحةِ تركِ التقيّةِ فتكونُ التقيّةُ جائزةً، وإن كانَ أحدُ الطرفينِ راجحاً فحُكمُ التقيّةِ تابعٌ له استحباباً أو كراهةً. وبذلكَ يمكنُنا القولُ إنَّ التقيّةَ في العملِ السياسيّ أيضاً محكومةٌ بالوجوبِ والحُرمةِ وبقيّةِ الأحكامِ بحسبِ الموردِ وبحسبِ المصلحةِ المُترتّبةِ عليها بحُكمِ الشرعِ وبحُكمِ العقلِ القطعي.