متى بدأت العلمانيّةُ كمشروعٍ سياسيٍّ وفكريٍّ في العالمِ العربي؟

كيفَ إنتشرَت العلمانيّةُ في الوطنِ العربي؟ وما هيَ أسبابُ الإنتشارِ؟ وأيُّ دولةٍ عربيّةٍ كانَت هيَ الحاضنةَ لها؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

 توارثَت الأمّةُ الإسلاميّةُ على مدى ثلاثةَ عشرَ قرناً منَ الزّمنِ شكلاً واحداً للحُكمِ، يتمثّلُ في الخلافةِ الإسلاميّةِ التي سقطَت آخرُ أشكالها في بدايةِ القرنِ الماضي، وقد قُدّمَ الإسلامُ في طوالِ هذهِ الفترةِ بالشّكلِ الذي لا يتناقضُ مع هذا النّظامِ، الأمرُ الذي ساعدَ على إبعادِ الأمّةِ عن الشّأنِ السياسي وإيكالِ الأمرِ إلى مَن يُسمّى بخلفاءِ اللهِ ورسولِه، فتبلّدَت وتجمّدَت عقليّةُ الأمّةِ سياسيّاً، وأصبحَ منَ الصّعبِ إنتاجُ تصوّرٍ سياسيٍّ ينتمي إلى الإسلامِ وفي الوقتِ ذاتِه ينتمي إلى الواقعِ الرّاهنِ، وبعدَ سقوطِ هذا النموذجِ ودخولِ الاستعمارِ وتجزئةِ العالمِ الإسلاميّ، تبدّدَ حلمُ الخلافةِ الإسلاميّةِ ووقعَت الأمّةُ في حيرةٍ جعلَها عُرضةً للاستسلامِ أمامَ كلِّ التيّاراتِ السياسيّةِ الجديدةِ، فبرزَت ثقافةٌ كانَ أساسُها القوميّةُ والحكوماتُ القُطريّةُ، وقد ساهمَ أتاتورك الذي أقامَ نظامَه العلمانيَّ على أنقاضِ الخلافةِ العثمانيّةِ على تكريسِ هذهِ الثّقافةِ، وبدأت موجةُ القوميّةِ تجتاحُ العالمَ الإسلاميَّ، وتشكّلَت حكوماتٌ قوميّةٌ وعلمانيّةٌ في مصرَ وسوريا والعراق، وبهزيمةِ العربِ في حربِ 67 التي إعتبرَت هزيمةً للتيّارِ القومي تراجعَ هذا المشروعُ وبدأ ظهورُ تيّاراتٍ سياسيّةٍ تُنادي بإحياءِ مشروعٍ الخلافةِ الإسلاميّة، وبذلكَ فتحَ البابَ للحديثِ عَن تصوّرٍ سياسيٍّ إسلاميٍّ للمنطقةِ مُستفيداً منَ الجهودِ العلميّةِ التي أسّسَ لها جمالُ الدّينِ ومحمّد عبده في القرنِ الثامنِ عشر، وحسنُ البنّا في الأربعيناتِ منَ القرنِ المُنصرمِ، إلاّ أنَّها تظلُّ جهوداً محدودةً لا ترتقي إلى مُستوى المُنافسةِ في تلكَ الفترة.  

ومنَ الأعمالِ المُبكّرة التي حاولَت التّنظيرَ للعلمانيّةِ مِن داخلِ الدّائرةِ الإسلاميّة والتي أثارَت جدلاً واسِعاً هو كتابُ (الإسلامُ وأصولُ الحكم) لعلي عبدِ الرزّاقِ الذي صدرَ في عام 1925م، وأُعتبرَ الكتابُ طرحاً جريئاً تبنّاهُ أحدُ مشايخِ الأزهرِ والقضاةِ الشرعيّينَ، حيثُ تناولَ فيه مشروعيّةَ السّلطةِ السياسيّةِ في الإسلامِ، وبعدَ عرضٍ مطوّلٍ يخرجُ بمُحصّلةٍ؛ تنفي وجودَ أيّ سلطةٍ في الإسلامِ، وإنّما هيَ منَ الأمورِ الدنيويّةِ الموكولةِ للنّاسِ. يقولُ: "على أنَّ ذلكَ إنّما هوَ غرضٌ من الأغراضَ الدنيويّة، التي خلّى اللهُ سبحانَه وتعالى بينَها وبينَ عقولِنا. وتركَ النّاسَ أحراراً في تدبيرِها على ما تهديهم إليهِ عقولهم، وعلومُهم، ومصالحُهم، وأهواؤهم، ونزعاتُهم.. "  . ويُعتبرُ ذلكَ إيذاناً لنمطٍ تفكيريّ مِن داخلِ البيئةِ الإسلاميّة يقومُ على فصلِ الدّينِ عن الدولةِ وإيكالِ الشّأنِ العامِّ للإنسانِ بحسبِ ما تُمليهِ المرحلة.  

 وقد تصاعدَ مثلُ هذا الطّرحِ بوتيرةٍ مُتسارعةٍ، وتصدّى البعضُ محاولاً إيجادَ التبريرِ الديني لمثلِ هذا النمطِ التفكيري، ويبدو أنَّ المُتسبّبَ في ذلكَ هو ضعفُ الخطابِ الإسلاميّ في تقديمِ رؤيةٍ واضحةٍ للشّأنِ السياسيّ والاجتماعي. ومعَ أنَّ الأنظمةَ السياسيّةَ بعدَ عصرِ الاستعمارِ قد أبعدَت الإسلامَ وحاربَته إلّا أنّها لم تستطِع تقديمَ نموذجٍ لدولةٍ حديثةٍ تتمتّعُ بالحُريّاتِ والعدالةِ السياسيّة، ومعَ ذلكَ ما زالَ النّفَسُ العلمانيُّ يهيمنُ على العقليّةِ السياسيّةِ بشكلٍ عام، وقد ساعدَ في ذلكَ ضعفُ النماذجِ الإسلاميّةِ في الحُكمِ كما في السّودانِ وأفغانستان طالبان وبعضِ الحركاتِ الإسلاميّة المُتطرّفة.