ما هوَ الدّليلُ العقليُّ على وجودِ الإمامِ المهديّ (عليهِ السّلام)؟

كيفَ يمكنُ إثباتُ أنَّ الإمامَ المهديَّ (عج) حيٌّ يُرزَقُ وموجود؟؟ أريدُ تفسيراً عقليّاً ومنطقيّاً وعلميّاً يثبتُ ذلكَ بعيداً عنِ الرّواياتِ والأحاديثِ والقرآن.

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

قبلَ الإجابةِ لابدَّ منَ التّأكيِد على أنَّ الدّليلَ هوَ الوسيلةُ أو الأداةُ المؤدّيةُ إلى إظهارِ الحقِّ المُتنازعِ فيه، ولذلكَ لابدَّ مِن وجودِ تناسبٍ بينَ الدّليلِ وبينَ الموضوعِ المرادِ إثباتُه، فدليلُ المسائلِ الجُزئيّةِ يختلفُ عَن دليلِ المسائلِ الكليّةِ، ووسائلُ الإثباتِ في القضايا الماديّةِ يختلفُ عن وسائلِ الإثباتِ في القضايا غير الماديّة، وهكذا تختلفُ الأدلّةُ باختلافِ الموضوعاتِ المُرادِ بحثها. والعقلُ بما يمثّله مِن دورٍ محوريّ هوَ المسؤولُ عَن توظيفِ المُعطياتِ المناسبةِ لخدمةِ الحقيقةِ التي يبحثُ عنها، فمثلاً في الحُكمِ الشرعيّ يعتمدُ على النّصوصِ الدينيّة، وفي الحوادثِ التاريخيّة يعتمدُ على الآثارِ والوثائقِ القديمةِ، وفي الأمورِ العلميّةِ يعتمدُ على التجربةِ والمُختبر. وهكذا يكتسبُ الدّليلُ قيمتَه إذا تحرّكَ في إطارِ ما يناسبُه مِن موضوعات.   

وإذا إتّضحَ ذلكَ يمكنُنا العودةُ إلى السّؤالِ المطروحِ، حيثُ يمكنُ فهمُه في مسارين:   

المسارُ الأوّل: أن يكونَ صاحبُ السّؤالِ مؤمناً برسالةِ الإسلامِ إلّا أنّهُ غيرُ مُعترفٍ بفكرةِ الإمامِ المهديّ منَ الأساسِ، أو معترفاً بها كقضيّةٍ مستقبليّةٍ ولكنّهُ غيرُ مُصدّقٍ بوجودِه حيّاَ يرزقُ، وبالتّالي هوَ يطالبُ بالدّليلِ العقليّ دونَ الدّليلِ السّمعي.  

والمسارُ الثاني: أن يكونَ صاحبُ السّؤالِ مُلحداً غيرَ مؤمنٍ بوجودِ اللهِ منَ الأساسِ وهوَ معَ ذلكَ يبحثُ عنِ الدّليلِ العقليّ على وجودِ الإمامِ المهدي (عليهِ السّلام).  

منَ الواضحِ أنَّ المسارَ الأوّلَ أكثرُ أريحيّةً منَ المسار الثاني؛ وذلكَ لكونِ الإحتجاجِ على المُسلمِ بالدّليلِ العقليّ ممكناً مِن خلالِ الإرتكازِ على المُسلّماتِ الدينيّةِ ككبرياتٍ للبرهانِ، في حينِ أنَّ المسارَ الثاني لا يلتزمُ بمثلِ هذهِ البراهين، وعليهِ ينحصرُ الإحتجاجُ في الأدلّةِ ذاتِ المُقدّماتِ العقليّةِ فقط. ولا يخفى أنَّ هذا النّوعَ منَ التفكيرِ يشتملُ على مُغالطاتٍ مفضوحةٍ؛ فطلبُ الفرعِ معَ إنكارِ الأصلِ الذي يقومُ عليه شبيهٌ بالبحثِ في الفراغِ، وعليهِ يعدُّ ذلكَ تجاوزاً لكلِّ ضوابطِ التفكيرِ المنطقي، فالمطالبةُ بالدّليلِ العقليّ على وجودِ الإمامِ المهدي معَ عدمِ الإيمانِ باللهِ لا يخلو مِن رعونةٍ في التّفكير؛ لأنَّ إثباتَ وجودِه منَ المسائلِ الجُزئيّةِ التي يتوقّفُ ثبوتُها على ثبوتِ أشياءٍ أخرى، مثلَ إثباتِ وجودِ اللهِ وإثباتِ رسالةِ الرّسولِ محمّدٍ (ص) وإثباتِ الإمامةِ ومِن ثمَّ يأتي أخيراً إثباتُ وجودِ الإمامِ المهدي (عليه السّلام)، كلُّ ذلكَ يمثّلُ تسلسلاً منطقيّاً يفرضُه العقلُ على العاقلِ، ومِن هُنا جاءَ التّأكيدُ في مدخلِ الكلامِ على المناسبةِ بينَ الدّليلِ والمدلول.   

ومعَ ذلكَ يمكنُنا أن نجملَ الإجابةَ على السّؤالِ بحيثُ تكونُ مفيدةً للإنسانِ الباحثِ عن الحقيقةِ سواءٌ كانَ مسلماً أو غيرَ ذلك. ولكي نقرّبَ الصّورةَ للطرفينِ لابدَّ منَ الإشارةِ إلى جذورِ التديّنِ في النفسِ الإنسانيّة، بوصفِها دافعاً وجدانيّاً يحرّضُ العقلَ الإنسانيَّ للبحثِ عن الكمالِ، ومِن هنا سوفَ نتناولُ الموضوعَ في مسارين، الأوّلُ: هوَ فكرةُ المهدويّةِ نفسُها ولماذا هيَ ضرورةٌ؟ والمسارُ الثاني: وهوَ وجودُ الإمامِ المهدي بنِ الحسن العسكريّ (عليهِ السّلام) كما يعتقدُ شيعةُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)    

منَ الواضحِ أنَّ الجذرَ الفلسفيَّ للإيمانِ بالمُخلّصِ (الذي يملأ الأرضَ عدلاً) هوَ ذاتُه الجذرُ الذي يدعو الإنسانَ للإيمانِ باللهِ تعالى، ومنَ المؤكّدِ أيضاً أنَّ هذا الجذرَ يمثّلُ مُشتركاً إنسانيّاً يصحُّ الإرتكازُ عليه كدليلٍ محايدٍ؛ لأنَّ شعورَ الإنسانِ بالمُقدّسِ أو نزوعَه نحوَ الكمالِ أو إحساسَه بالفضائلِ والمعاني السّاميةِ يمثّلُ معدنَ الإنسانِ وجوهرَه المُتميّزَ، ومهما كانَ الإنسانُ متمرّداً لا يمكنُه التمرّدُ على إحساسِه العميقِ بقيمةِ الفضيلةِ وفضائلِ القيمِ، وعليهِ فإنّ تطلُّعَ الإنسان وبحثه عن ذلكَ الكمالِ يشكّلُ البنيةَ التحتيّةَ التي يبني عليها الإنسانُ معارفَه، والدّينُ والتديّنُ بشكلٍ عامٍّ ليسَ إلّا تعبيراً عن هذا الجذبِ الداخليّ الذي يدفعُ الإنسانَ نحوَ المقدّسِ والكاملِ، وإهمالُ هذا الإحساسِ الفطريّ في مقاربةِ الأفكارِ المصيريّةِ يؤدّي حتماً إلى رؤيةٍ مشوّشةٍ وغيرِ واقعيّةٍ، وعليهِ يجبُ مراعاةُ ذلكَ في ما يخصُّ الإيمانَ بضرورةِ وجودِ مُخلصٍ.

وهنا نتساءلُ عن الإيمانِ بوجودِه إن كانَ ينسجمُ مع ذلكَ الإحساسِ الفطريّ أو عدم الإيمانِ هو الذي يُحقّقُ ذلكَ الإنسجامَ؟ فإن كانَ الإنسانُ مفطوراً بطبعِه على حبِّ الكمالِ والجمالِ ويعشقُ القيمَ والمثالَ، فإنَّ ذلكَ يجعله في حالةٍ منَ التطلّعِ الدّائمِ إلى ذلكَ اليومِ الذي تتحقّقُ فيه العدالةُ وتبلغُ فيهِ الحياةُ كمالها الرّوحيَّ والمادّي؛ والسببُ في ذلكَ أنّ وجودَ مثلِ هذا اليومِ يمثّلُ قمّةَ ما يحلمُ بهِ الإنسانُ ويرجوه، ومِن هُنا يصبحُ الإيمانُ بالمُخلّص قضيّةً يفرضُها التفكيرُ المنطقيُّ الذي يُراعي الثوابتَ اليقينيّةَ، والذي يؤكّدُ ذلكَ هوَ إهتمام الأنساقِ الفلسفيّةِ الكُبرى والمشاريعِ الإصلاحيّةِ بذلكَ اليومِ الذي يتحقّقُ فيه التوازنُ وتعمُّ فيهِ العدالةُ، فحتّى الفلسفاتُ الماديّةُ المهتمّةُ بالشأنِ السياسيّ والإجتماعيّ مثل الماركسيّةِ تحدّثَت عن ذلكَ اليومِ الذي يتوقّفُ فيهِ الصّراعُ الطبقيُّ وتشيعُ فيهِ المساواةُ بينَ جميعِ الطبقاتِ؛ بل يمكنُنا الجزمُ بأنَّ البشريّة بكلِّ مشاربِها تنشدُ اليومَ الذي تكونُ فيه الحياةُ أكثرَ سلاماً وأمناً وإزدهاراً، وهوَ الأمرُ الذي يُفسّرُ سعيَ الإنسانِ الحثيثَ وكفاحَه المريرَ لتحقيقِ هذهِ الغايةِ، فإن كانَ ذلكَ مُستحيلاً بطبعِه لتجمّدَت الحياةُ وفقدَت قيمتَها، وعليهِ فإنَّ الإيمانَ بالمُخلّصِ هو تعبيرٌ عَن فطرةِ الإنسانِ التي تعشقُ الكمالَ، فكما تطلّعَ الإنسانُ إلى السماءِ لكي تمدّهُ بالأنبياءِ والرّسلِ فإنّهُ مازالَ يتطلّعُ إليها لتقيمَ له العدلَ، والإنسانُ الذي يرى نفسَه مُستغنياً عَن عونِ اللهِ ومددِه ليسَ جاهلاً باللهِ وحده وإنّما جاهلاً بطبيعةِ الإنسانِ وحقيقتِه.  

وبما أنَّ الإسلامَ كرسالةٍ جاءَت مِن أجلِ تحقيقِ كمالِ الإنسانِ، لابدَّ أن يكونَ اليومُ الموعودُ مِن أوّليّاتِ إهتمامِه، ومِن هُنا يمكنُنا أن نتفهّمَ التأكيدَ الشيعيَّ على قضيّةِ الإمامِ المهدي (عج)، بوصفِه المستقبلَ النهائيَّ لتكامليّةِ المسيرةِ الإسلاميّة، إذ كيفَ يمكنُ الحديثُ عن رسالةٍ خاتمةٍ دونَ الحديثِ عَن مآلاتِها النهائيّة، وما تحقّقُه للإنسانِ في الدّنيا قبلَ الآخرة.  

وفي الخلاصةِ، إنَّ فطرةَ الإنسانِ المُتطلّعةَ نحوَ الكمالِ هيَ التي تجعلُ الإنسانَ في حالةٍ منَ الأملِ الدّائمِ بقدومِ اليومِ الذي يتحقّقُ فيهِ كمالُ الإنسانِ فرداً وحضارةً، وعليهِ يصبحُ الإيمانُ بضرورةِ المُخلّصِ منَ الأصولِ التي يستمدُّها الإنسانُ مِن إستعدادِه الفطريّ بانتصارِ الحقِّ وهزيمةِ الباطل، ولولا إيمانُ الإنسانِ بأنَّ الإنتصارَ النهائيَّ حليفُ الحقِّ لما وجدَ في نفسِه الدّافعَ لمواجهةِ الباطلِ ومُبارزتِه.   

أمّا المسارُ الثاني وهوَ كيفيّةُ إثباتِ أنَّ المُخلّصَ هوَ الإمامُ المهدي بن الحسنِ العسكري (سلامُ اللهِ عليهما)، يمكنُ إجمالُ الحديثِ فيه أيضاً على النّحوِ التّالي:  

منَ الواضحِ أنَّ هذهِ المسألةَ منَ الأمورِ الجُزئيّةِ المُتفرّعةِ مِن أصولٍ أخرى إعتقاديّة، فإذا ثبتَ أنَّ الإسلامَ هوَ الرّسالةُ الخاتمةُ، وثبتَت الإمامةُ لأهلِ البيتِ بعدَ رسولِ الله، وثبتَ كونُ الأئمّةِ أثني عشر، وثبتَ أنَّ آخرَهم هو المهديُّ، وثبتَت ولادتُه، حينَها يمكنُنا الجزمُ بوجودِه، وهذا النّوعُ منَ التدرّجِ يفيدُ في مقامِ الإحتجاجِ على المُسلمِ المُنكرِ للحجّةِ بنِ الحسن (عليه السّلام)، حيثُ يمكنُ إلزامُه بكثيرٍ منَ الأدلّةِ العقليّةِ والنصيّة. إلّا أنَّ السّائلَ هُنا يطلبُ الدّليلَ على وجودِه وحياتِه بعيداً عَن كلِّ ذلك، وحينَها يمكنُنا القولُ أنَّ النّظرةَ الكليّة للأفكار ومحاكمتَها عقليّاً يجبُ أن تعتمدَ على أهميّةِ الفكرةِ داخلَ الأفكارِ التي تنتمي إليها، فمثلاً عندَما نحاكمُ فكرةً تنتمي إلى تصوّرٍ فلسفيٍّ محدّدٍ فإنّنا نحاكمُها بما تمثّله مِن إتّساقٍ معَ بقيّةِ الأفكارِ، فإن كانَت الفكرة مُناقضةً لفكرةٍ أخرى أو مناقضةً للرّؤيةِ العامّةِ للمشروعِ الفلسفيّ حينَها يمكنُنا القولُ أنّها فكرةٌ غيرُ منطقيّةٍ، والتشيّعُ كرؤيةٍ معرفيّةٍ وكمشروعٍ إلهيٍّ لصلاحِ الإنسانِ يمثّلُ رؤيةً مُتّسقةً ومُتكاملةً، وفكرةُ وجودِ الإمامِ المهدي (عليهِ السّلام) فكرةٌ محوريّةٌ لا تكتملُ الأطروحةُ الشيعيّةُ من دونها، فحقيقةُ التشيّعِ وجوهرُه يقومُ على الإمامةِ، أي أنَّ رسالاتِ اللهِ خُتمَت بمحمّدٍ (ص) إلّا أنَّ الإمامةَ بدأت بعليٍّ (ع) ولا يمكنُ أن ينتهي هذا المشروعُ إلّا باليومِ الذي يتحقّقُ فيه إنتصارُ الحقِّ على الباطلِ، وبالتّالي عدمُ وجودِ الإمامِ المهدي (ع) هوَ الذي يجعلُ الإسلامَ مشروعاً فاقِداً للرؤيةِ المُستقبليّةِ وليسَ العكس.  

أمّا الفكرةُ القائلةُ بأنَّ الإمامَ قد ولدَ سنةَ 255هـ وما زالَ موجوداً، يمكنُ مقاربتُها عقليّاً مِن خلالِ النّسقِ التاريخيّ للإمامةِ نفسِها، حيثُ يمكنُنا التأكيدُ على أنَّ الموضوعيّةَ التاريخيّةَ قاضيةٌ بضرورةِ أن يكونَ الإمامُ قد ولدَ؛ وذلكَ لكونِ الإمامةِ ضمنَ التصوّرِ الشيعيّ محصورةً في عددٍ محدّدٍ، كما أنَّ هدفَ وجودِه يقتضي المحافظةَ عليه إلى حينِ تتهيّأ الظروفُ للقيامِ بمشروعِه، وإلّا يصبحُ وجودُه مساوياً لعدمِه، وإن كنّا لا نفهمُ الحِكمةَ مِن جعلِ الأئمّةِ إثني عشر دونَ زيادةٍ، إلّا أنّنا لا نفهمُ أيضاً أن يكونَ عددُهم غيرَ متناهٍ، وبما أنَّ التشيّعَ قائمٌ على أنَّ الأئمّةَ إثنا عشر، وبما أنَّ إقامةَ دولةِ الحقِّ والعدلِ مصيرٌ لابدَّ منهُ حينَها لا يكونُ أمامَ العقلِ إلّا الإيمانُ باستمراريّةِ وجودِه إلى أن يُقيمَ دولةَ العدلِ الكُبرى.

وعلى أقلِّ التقديرِ، إنَّ الإيمانَ بوجودِ الإمامِ المهدي لا يتعارضُ معَ دليلِ العقلِ، فالقولُ أنَّ هذهِ الفكرةَ غيرُ عقليّةٍ أو غيرُ منطقيّةٍ يعني أنّها متناقضةٌ في نفسِها أو متناقضةٌ معَ غيرِها مِن أفكارٍ وهذا ما لا نجدُ له أثراً في فكرةِ وجودِ الإمامِ المهدي (عليه السّلام) كما يعتقدُ بها الشّيعة.   

أمّا ما يخصُّ العمرَ الطويلَ فهناكَ بحوثٌ علميّةٌ تتحدّثُ عن إمكانيّةِ إطالةِ عمرِ الإنسانِ، بل كلُّ البحوثِ العلميّةِ تتحدّثُ عن أسبابِ الوفاةِ ممّا يعني أنَّ إستمراريّةَ الحياةِ في نظرِ العلمِ تمثّلُ الحالةَ الطبيعيّةَ، ولذلكَ لا يمكنُ الإعتراضُ على العُمرِ الطويلِ مِن بابِ العلم، كما لا يمكنُ الإعتراضُ عليه مِن بابِ العقلِ لكونِه لا يرى مانعاً مِن أن يطولَ عمرُ الإنسان.