السببيّةُ عندَ هيوم  

هل يمكنُ الردُّ على هيوم بإرجاعِ السببيّةِ للمنطقِ العقليّ بدلاً منَ العادةِ والتّكرار   والإستدلالُ يأتي عندَما نرى الطفلَ يريدُ الرّضاعةَ فهو يدركُ أنّ حاجةَ الإشباعِ تأتي منَ الأمّ . 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:   

كما أشرنا في إجابةٍ سابقةٍ أنَّ فلسفةَ هيوم قامَت على عدمِ الثقةِ في التأملِ الفلسفيّ، حيثُ حصرَ المعرفةَ الإنسانيّةَ في الخبرةِ والتجربةِ الحياتيّة بعيداً عن أيّ إسقاطاتٍ عقليّة، فالمعرفةُ عندَه حسيّةٌ تجريبيّةٌ والذهنُ ليسَ إلّا لوحةً بيضاءَ ترتسمُ فيها الأحاسيسُ والإنطباعاتُ مِن غيرِ أيّ سلطةٍ عقليّةٍ مُسبقةٍ، وعليهِ لا وجودَ لأحكامٍ عقليّةٍ أوليّةٍ تمكّنُ العقلَ مِن إبداءِ الرّأي أو الحكمِ المُسبقِ على الأشياء، ومِن هذا البُعدِ إنتقدَ هيوم العلاقةَ الضروريّةَ بينَ السّببِ والمُسبّبِ، والتي تسالمَت عليها الفلسفةُ الإنسانيّةُ وجعلَتها مِن ضروراتِ المعرفة.   

فبحسبِ فلسفةِ هيوم الحسّيّةِ والرّافضةِ لكلِّ أحكامٍ عقليّةٍ أوليّة لا يمكنُ إثباتُ أيّ علاقةٍ ضروريّةٍ بينَ السّببِ والمُسبّب، وإنّما هيَ مجرّدُ تتابعٍ وتكرار ليسَ إلّا، ومِن هّنا لا يمكنُ ردّه مِن خلالِ نفسِ المُدّعى، وذلكَ بالقولِ: أنَّ العقلَ له حاكميّةٌ وقدرةٌ إستنباطيّةٌ بحسبِ المبادئِ الأوليّة، أو مِن خلالِ التأكيدِ على العلاقةِ الضروريّة بينَ السّببِ والمُسبّب، لأنّ ذلكَ هوَ موردُ الخلافِ ومحلُّ النّزاعِ بينَه وبينَ مَن يُخالفُه في هذهِ الأفكار، والمثالُ الذي ضربَه السّائلُ – إرضاعُ الطّفلِ مِن أمّه – في نظرِ هيوم لا يكشفُ عَن سببٍ ومُسبّبٍ بينَهما علاقةٌ ضروريّة، وإنّما مجرّدُ ترافقٍ وإقترانٍ بينَ ظاهرتينِ ليسَ بينَهما علاقةُ علّةٍ ومعلول.  

ويذهبُ هيوم في تحليلِه لقضيّةِ السببيّةِ في كتابِه تحقيقٌ في الذهنِ البشريّ إلى التشكيكِ في علميّاتِ الذهنِ مُنطلِقاً في ذلكَ مِن حالةِ الإنسانِ الأوّلِ، ونظرتِه للشّمسِ، وتلكَ الحيرةُ التي تنتابُه حولَ إمكانيّةِ شروقِها مرّةً أخرى أم لا؟ وهوَ في هذهِ الحالةِ لا يمتلكُ دليلاً عقليّاً على ذلكَ، وكلُّ ما يملكُه يقتصرُ على العادةِ والتّكرارِ وبالتّالي التجربةِ الحياتيّة، وعليهِ المسألةُ عندَه لا ترتبطُ بالضّرورةِ العقليّة وإنّما تعودُ للعادةِ والتّكرارِ النابعينَ منَ التجربةِ، ولا يمكنُ للعقلِ بعيداً عن هذه التجربةِ أن يُكوّنَ أيّ إستنتاجٍ مُسبق؛ لأنَّ الظواهرَ السببيّةَ عندَه تعودُ إلى العادةِ والتّكرارِ النابعينِ مِن صميمِ الحواسِّ لا المنطقِ العقليّ.  

وقد أكّدنا في الإجابةِ السّابقةِ أنَّ معالجةَ هذهِ المسألةِ يعودُ إلى معالجةِ نظريةِ المعرفةِ بشكلٍ عام، والمناقشة مِن جديدٍ حولَ مبدأ المعرفةِ الإنسانيّة، هل هوَ الحسُّ، أم العقلُ، أم كلاهما، وغيرُ ذلكَ منَ البحوثِ المُثارةِ في محلّها.   

وقد أُثيرَ في علمِ الكلامِ الإسلاميّ بحثٌ شبيهٌ بهذا البحثِ في ما يخصُّ العلاقةَ بينَ السّببِ والمُسبّبِ وهل هيَ ذاتيّةٌ نابعةٌ مِن طبيعةِ الأشياءِ أم هيَ خاضعةٌ للجعلِ الإلهيّ، وقد إنحازَ بعضُهم إلى العلاقةِ الذاتيّةِ بينَ السّببِ والمُسبّب بينما رفضَ الأشاعرةُ ذلكَ واختاروا العلاقةَ القائمةَ على الجعلِ الإلهيّ في تأثيرِ السّببِ على المُسبّبِ، وبعيداً عن ترجيحِ أحدِ الخيارينِ يُسلّمُ الجميعُ بوجودِ علاقةٍ ضروريّةٍ بينَ السّببِ والمُسبّبِ سواءٌ كانَ ذلكَ مِن طبائعِ الأشياءِ أم بالجعلِ الإلهيّ، وهذا خلافُ ما ذهبَ إليهِ هيوم بفلسفتِه الحسّيّةِ التجريبيّةِ، وإذا فحصنا موقفَ هيوم منَ السّببيّةِ سنجدُ أنّهُ أقربُ إلى السّفسطِة والمُغالطةِ؛ لأنَّ التّشكيكَ في السّببيّةِ ليسَ تشكيكاً في المعرفةِ الإنسانيّةِ فحسب وإنّما تشكيكٌ في نظامِ الكونِ الذي سيُفضي حتماً إلى إعدامِه، فعدمُ القُدرةِ على تفسيرِ الكونِ وإدراكِه مساوٍ لعدمِ الإعترافِ بوجودِه، فبالضرورةِ التي لا يمكنُ التّشكيكُ فيها هيَ وجودُ الكونِ ووجودُ التّرابطِ السّببي القائم بينَ أجزائِه، وقد أدّى رفضُ هيوم للتّرابطِ الضروريّ بينَ السّببِ والنتيجةِ، وإرجاعُ العلاقةِ القائمةِ بينَهما إلى العادةِ والتّكرارِ، إلى الوقوعِ في العديدِ منَ الأخطاءِ المنهجيّةِ التي جعلَت منهُ موضوعاً للدراسةِ والنّقدِ، باعتبارِه خروجاً عنِ النّسقِ الطبيعيّ في التفكيرِ بأسلوبٍ تعسّفيّ تشكيكيٍّ ليسَ إلّا، وعليهِ يفتقرُ هذا التصوّرُ إلى سندٍ منطقيٍّ ويتنافى معَ أساسيّاتِ البحثِ العلميّ السّليم.