هل المنهج المادي هو المنهج الوحيد؟

جُملة من الملحدينَ يعتبرون الطبيعة أمّهم(والدتهم) وقد أشار إلى ذلك الناقد الدكتور حسام الدين حامد في كتابه الموسوم (الإلحاد وثوقيّة التوهّـم وخوآء العدم) الصفحة التاسعة السطر السابع. السؤال: كيف بنى الملحدون قسماً من أفكارهم على اعتبار الطبيعة المعدومة أمَّـهـم (والدتهم)؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

مما لا شك فيه أن هناك أسباب متعددة تبتعد بالفكر الإنساني عن بديهيات المنطق، من بينها الجانب النفسي والعناصر المكونة لشخصية الإنسان، حيث تعمل طبيعة الإنسان النفسية على تحديد مسار تفكيره ونوع القناعات التي يتبناها، وسوف نبتعد في الإجابة على هذا السؤال عن التحليل النفسي ودوره في تكوين قناعات الملحد؛ وذلك لكون السائل يبحث عن الآلية المعرفية التي رآكم بها الإلحاد أفكاره، ولذا سنشير بشكل عام إلى الانحرافات الفكرية الناتجة عن بطبيعة التفكير ونظرية المعرفة وما يرافقها من أخطأ منهجية.

يبدو أن الخلفية الدافعة لهذا التصور المادي وحضوره المكثف في المباحث العلمية، هو ما حققته المنهجيات الطبيعية من إنجازات علمية، مما رآكم الثقة في المناهج المادية على حساب مناهج العلوم الإنسانية، الأمر الذي دفع البعض إلى اعتماد المنهج المادي والتجريبي باعتباره القادر على تحقيق نتائج يقينية في العلوم الإنسانية أيضاً.

ومن الواضح ان التفكير الطفولي الذي كان يطمح في جعل العلوم الإنسانية شبيهة بالعلوم التجريبية هو المسؤول عن هذا الخلل، وقد بدأ هذا النمط من التفكير الحالم مع عصر النهضة، وبنضوج العلوم وتقدم المعرفة بات هذا التفكير مرحلة ساذجة لا يعتد بها أحد، ولذلك أنتهى عصر الفلسفة الوضعية عندما أعلن منظرها الأكبر (سير الفريد آير)  "في خمسينات القرن العشرين أن هذه الفلسفة ملأى بالتناقض، بالرغم من أنه قضى السنوات الطوال في معالجة أخطائها. لقد تنبه آير إلى أنه لا يمكننا تطبيق قواعد البحث في العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس (كالكيمياء والفيزياء) على العلوم الإنسانية (كالفلسفة والمنطق والأخلاق). كذلك لا يمكن دراسة المفاهيم الدينية بمقاييس المفاهيم العلمية؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولة فهم مقولة: (إن الله موجود في كل مكان – كلي الوجود-) بمفاهيم المكان في فيزياء نيوتن أو فيزياء أينشتاين. بذلك قام آير بإعلان موت الفلسفة الوضعية المنطقية ودفنها" 

وبعيداً عن الإسهامات المقدرة التي قدمتها العلوم الطبيعية، إلا أن مناهجها غير قابلة للتعميم لتشمل الجانب الإنساني – فلسفياً، ودينياً، واجتماعياً - وكل ما له علاقة بالجانب المعنوي والمعرفي للإنسان، فالبحث عن القوانين الطبيعية وربط الظواهر بأسبابها المباشرة لا يغني الإنسان عن الارتباط بالغيب والبحث عن المطلق، فتفاعل الإنسان مع عالم المادة وتسخيرها ضمن شروطها الطبيعية يعد خطوة ضرورية للتكامل المادي للإنسان، أما تكامله الروحي وعروجه إلى المعاني السامية والقيم الكلية لا يكون إلا بانفتاحه على الغيب، فلا التجربة المادية تحقق للإنسان ما يصبو له روحياً، ولا الغيب والتأمل يحقق له ما يحتاجه مادياً، وعليه فإن الإنسان لا يستغني بجانب دون الجانب الاخر. 

والإنسان بهذه الشخصية المركبة من روح ومادة لا يمكن فهمه من خلال التركيز على الجانب المادي واهمال الجانب الروحي، كما أن الحقائق والموضوعات التي يتعامل معها الإنسان ليست كلها ذات نمط واحد، فبينما ينظر الإنسان إلى بعض الأمور بعقل تجريبي، ويتفاعل مع بعض الحقائق حسياً، نجده ينظر إلى موضوعات أخرى بعقل تأملي وتحليلي، ويتفاعل مع بعضها معنوياً أو عاطفياً، فالإنسان ليس ذاتاً بسيطة لينظر للأشياء من زاوية واحدة، وهكذا نفهم ما أحدثه الإنسان من تطور مادي، وفي نفس الوقت نتفهم ما حققه من مخزون معرفي وتكامل عرفاني وتأمل روحي. يقول الدكتور ماكس نوردوه عن الشعور الديني: "هذا الإحساس أصيل يجده الإنسان غير المتمدن كما يجده أعلى الناس تفكيراً وأعظمهم حدساً، وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة" . وعليه هناك الكثير من المعارف التي يكتسبها الإنسان عندما يسمح للعقل بالتحليق في آفاق الحياة الواسعة، وبما لها من تاريخ-+ عريق، وحضارات متنوعة، واجتماع إنساني فاعل ومتفاعل، فحصر العقل وحبسه بين جدران المختبر جريمة في حق العقل والعلم معاً.

وبالتالي الخطأ المنهجي الذي وقع فيه الإلحاد هو محاولته اخضاع الحقيقة لمنهج مادي تجريبي، في حين أن الحقيقة اعم من كونها مادية، ولذا يعد التفريق بين منهج العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية خطوة ضرورية لمعرفة المنهج الذي يناسب كل حقيقة، وقد بات من المسلم أن الإنسان لا يمكن رصده وتقييمه ضمن إطار مادّي خارجي فحسب، لأنه موجود له قصد وإرادة وله تطلع روحي ومعنوي، وبالتالي لا يمكن معرفته عن طريق الرصد المادي وإدخاله ضمن قانون السببية المادية وقوانين الطبيعة؛ لأن معرفة الظاهرة الإنسانية لا تقوم على الوصف والشرح كما هو الحال في الظاهرة الطبيعية، وإنما تحتاج إلى تعقّلٍ وإدراك وتفهّمٍ يستوعب ما يحمله الإنسان من غايات وما يتطلع له من كمالات. 

أن الوقوف على كلمات الملحدين تجعلنا نشكك في كونه خياراً عقلياً يرتكز على منطق العقلاء في تفهم الأشياء، وذلك لأن العقل الإلحادي عقل مادي يريد أن يسوق كل الحقائق بعصا الحس، وهذا مخالف لمنطق الحياة التي لا يمكن حصرها في المختبر، فإن كانت العلوم التجريبية علوم حسية فإن العوم الإنسانية علوم فوق حسية، والعقل المنفتح نحو الحقائق هو الأكثر تحرراً من هيمنة المادة المظلمة، فالحب والجمال والكرامة وكل القيم والمعاني السامية لا يمكن فهمها بالتجارب الحسية، وإنما العقل المستنير بنور الحقائق هو وحده الذي يمكنه أن يفهم تلك المعاني، وبالتالي هناك منطق خاص عند العقلاء هو الذي يجب أن يكون حاكماً لتفهم ظاهرة مصيرية كالظاهرة الدينية وهذا مالم يفهمه الإلحاد. 

وفي المقابل نجد الإيمان بالله حالة متأصلة في التاريخ الإنساني، ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا بوصفها خياراً عقلياً قاد الجميع للإيمان بحقيقة غير مادية، وذلك لكون العقل هو الذي يقود الإنسان وفي أول مراحل تفكيره إلى السؤال عن علل الأشياء وغاياتها، وهو سؤال العقل الأول بل العقل ليس شيئاً آخراً غير هذا السؤال، فكون الإنسان عاقلاً هو معنى آخر لكون الإنسان متسائلاً عن فلسفة الأشياء وغاياتها، والإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي وجوده ووجود ما حوله، والإيمان بالله هو الذي يحقق للوجود وجوده ويحقق للمعنى معناه، وعليه فإن الاعتراف بوجود الله هو ما يقود إليه التفكير العقلي المنضبط. يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في مقام توضيح ما يقوم به الدين تكميلاً للعلم: (عندما اتحدث عن الإله، فإنني لا اطرح إلهاً ليسد الثغرات التي لم يجب عنها العلم حتى الآن، فأنا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير. ولكنني اطرح الوجود الإلهي لأفسر لماذا صار العالم قادراً على التفسير؟) . فكون العالم قابلاً للتفسير العلمي يعد دليلاً على وجود إله عالم حكيم هو الذي صمم هذا الوجود بالشكل الذي يكون فيه مفهوماً.

وفي المحصلة يمكننا أن نقول إن المادة والطبيعة لا تصلح أن تكون إله؛ وذلك لكون الطبيعة تكتنفها مظاهر النقص والحاجة في كل اركانها وزواياها، كما لا يمكن معرفة الله كما نعرف الطبيعة؛ لأن الله ليس جزء منها ولا يخضع لقوانينها.

-