هل الله ضرورة معرفية؟

انني أوقن تماما بإنكار وجود كل الآلهة التي تخيلها وأنتجها البشر بامتداد التاريخ الإنساني المعروف لكونها قلبا وقالبا صنائع أرضية غير مفارقة للواقع أمكن التعرف عليها وفقا لمعطيات أرضية موضوعية من معطيات تاريخ البشر الجغرافية والاقتصادية والنفسية. الخ بما فيها ذلك الإله المسمى ب"الله" إله الديانات الإيلية/الإبراهيمية(يهودية،_مسيحية،_إسلام) فأراني غير آسف على جمعهم الكريم المنتمي لصنف الحفريات الفكرية للطفولة الإنسانية ..مؤيدا إلى أبعد حد مقولة "ماركس" الرائعة(إن الله لم يخلق الإنسان ولكن الإنسان هو الذي خلق الله).

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليس من مقدورنا مناقشة الآراء الشخصية للناس، ولا نمتلك القدرة على تغيير قناعتهم، ولكننا ندافع عما نؤمن به ونعتقد بوجوده، فكون هناك إله لهذا الكون حقيقة لا يمكن نكرانها، والإيمان به ضرورة حتمية لا مفر منها، ولا يفهم من ذلك كون الإيمان ضرورة لله، وإنما ضرورة للإنسان بوصفه كائناً عاقلاً، فالحقائق لا تستقيم إلا به، والوجود لا يفهم إلا من خلاله، والحياة لا تتزن إلا معه، والكمال لا يكون إلا من خلال الارتباط به.

 وقد حاول الإنسان بغروره أن ينفي وجود الله بعقله وهو يجهل أن العقل لا يكون منطقياً في تفكيره مالم يؤمن بالله أولاً. وسوف اكتفي في الإجابة على هذا السؤال بمجرد الإشارة إلى هذه القضية.

 الله ضرورة معرفية: 

هناك مدارس فلسفية متعددة انطلقت من الوجود لرسم تصوراتها الفلسفية، مما يعني أن الوجود حقيقة موضوعية لا يمكن التغافل عنه، وهذه المسلمة لا يمكن أن تستقيم إلا إذا أمنا بالله بوصفه ضامناً لهذه الواقعية الخارجية، إذ كيف يمكن الوثوق بالفكر ونحن لا نمتلك ضمان لهذه الواقعية، ومن ثم ما هو المصحح لأفكارنا ونحن لا نثق بمطابقة الفكر لهذه الواقعية، والفكر كما هو واضح لا يعطي للأشياء وجودها، وبالتالي هناك مسافة فاصلة بين الفكر والواقع، ولا يمكن الوثوق بالفكر الإنساني مالم تكن هناك ضمانة بوصفها حقيقة مركزية تقاس عليها الحقائق الأخرى، وحالة الشك والنسبية الملحوظة عند بعض المدارس الفلسفية مصدرها الأساس عدم وجود مرجعية متعالية للأشياء، وعليه فإن الحكم على واقعية الأشياء ليس ممكناً للعقل دون الارتكاز على حقيقة متعالية، ومن هنا كان من الضروري البحث عن ضمانة توفر الثقة بالموجودات كحقيقة موضوعية لها حالة من الثبات والتحقق؛ لأن الذات الإنسانية متناهية وبالتالي تعد بمفردها نقطة بداية هشة لتزويدنا بمعرفة يقينية بالحقائق الخارجية، يقول جيمس كولينز "لأن هذه الذات محدودة القدرة، وتعيش في لحظات منفصلة من الزمان دون أن تكون لها ديمومة باطنية متصلة خاصة بها. وهي لا تعرف حقاً إلا في اللحظة التي تعاين فيها حدساً بموجود مفكر. وما أن ينتقل العقل إلى حالة يتذكر فيها حدساً سابقاً، حتى يفقد تأكده الكامل، وتكف مبادئه عن إعطاء براهين لا شك فيها. ومن ثم، فنحن في حاجة إلى ضمان مستقل للذاكرة حتى نصوغ الحلقات في سلسلة الحقائق المستنبطة" . فالوجود كفعل لله والمعرفة كفعل للإنسان هما اللذان يحققان الاشتراط الضروري للمعرفة، ولا يمكن للعقل أن يحيل إلى واقعية موثوق بها مالم ترتكز هذه الواقعية على حقيقة مطلقة وثابتة، بمعنى أن معقولية العالم المحسوس لابد أن تستنبط من مصدر أولي يمنح الموجودات المتناهية معقوليتها بوصفها موجودات قابلة للتفسير "فالأشياء المحسوسة في الكون الفيزيائي لا تستطيع امدادنا بمعطيات نقيم عليها البرهان، لأن تأكدنا المألوف من وجودها أصبح موضع الشك، ولا يمكن أعادته إلى مرتبة المعرفة ألا بعد أثبات وجود إله ضامن للحقيقة" .

فمن دون أن يكون هناك ثابت وجودي ستكون المعرفة الحسية والعقلية في حالة من الشك الذي يقترب من العدم، أو في حالة من النسبية التي تقترب من الوهم، فإسناد المعرفة للعقل أو الحس يفضي الي الدور، وعليه فإن كل السرديات الغير مؤمنة بسلطة غيبية لا يمكنها الثقة في المعرفة؛ لأن العبث في هذه السلطة يؤدي إلى انهيار كل البناء المعرفي حتى الوصول إلى العدمية المظلمة.

والبحث عن هذا المصحح تجلى بمظاهر مختلفة في كل الفلسفات الإنسانية، فمثلاً نجد أفلاطون أفترض وجود عالم مثالي متعالي يستبطن حقائق الأشياء، وتتدرج تلك الحقائق المثالية في شكل هرمي حتى الوصول الي قمة الهرم عند مثال الخير، ثم جاء افلوطين في الافلاطونية المحدثة ليؤكد هذا المعنى بالقول إن ذلك المثال المطلق هو الله. أما أرسطوطاليس فنجده رصد الحقيقة من حيثية الحركة في الموجودات، ولكي يصحح هذا المعنى أفترض وجود محرك أزلي غير متحرك هو الذي يمنح الأشياء الحركة. 

وقد تحدث ديكارت بشكل واضح عن الله كضرورة للمعرفة قبل أن يكون ضرورة إيمانية، يقول عزمي بشارة: "بدأت الفلسفة عند ديكارت بحدس متعلق بالتفكير بصفته دليلاً على الوجود، على الأقل وجود العقل أو الفكر. وهو ما أدى إلى افتراض وجود الله ثابتاً مطلقاً محققاً يضمن أن ما يلتقطه العقل من الموجودات موجود فعلاً" . وبالتالي الارتكاز على العقل بشكل مجرد لا يكون منتجاً عند ديكارت، وعليه فإن الإيمان بالله يشكل ضرورة معرفية يمنع من تسرب الشك في المعرفة، "وقد أعطى ديكارت قوة دافعة للنظرة العقلية الحديثة التي ترى أن المهمة الرئيسية للميتافيزيقا هي أن تقيم مبادئ الاستنباط الأولى على أسس عقلية فعالة من أجل وضع نسق كامل من الحقائق المستمدة أولياً، أو من تحليل الضرورات التصورية. وأخيراً، خطا ديكارت تلك الخطوة الحاسمة حين أنتهى إلى الإله هو المبدأ العقلي للنسق الاستنباطي" . 

وعليه ليس العقل الإنساني هو الذي أوجد الله وإنما العقل وجد نفسه بعد أن وجد الله، والذي يدعي الكفر بالله هو في الواقع يكفر بالإنسان وبالواقع وبالمعرفة. أما المقولة المنسوبة لماركس (إن الله لم يخلق الإنسان ولكن الإنسان هو الذي خلق الله) فهي مقولة خاطئة وإذا عممت لا يسلم منها حتى ماركس، لأن المادية والمنطق الجدلي الذي يفسر به الوجود أيضاً يعد إلهاً أوجده ماركس بعقله، إلا أن سياق كلامه ليس في وارد نفي أو اثبات إله صانع لهذا الوجود وإنما كان يقصد القيود التي صنعتها المسيحية وأصبحت عائقاً لحركة المجتمع، ولذا ماركس لا يقول لا إله للكون لأن ذلك ليس مصدر اهتمام له، وإنما يقول ليس في الكون إله بمعنى أن الله المتمثل في الكنيسة ليس له علاقة بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.  

 

[1] - الله في الفلسفة الحديثة، جيمس كولينز، ترجمة فؤاد كامل، الناشرمؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر القاهرة – نيويورك سنة 1873م، ص 89.

[2] - المصدر السابق.

[3] - الدين والعلمانية في سياق تاريخي، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة قطر، الطبعة الأولى بيروت، 2013م، الجز الأول، ص 40

[4] - الله في الفلسفة الحديثة، جيمس كولينز، مصدر سابق  ص 88