هل العلمانية لا تتدخل في الشأن الإسلامي؟

 تقول العلمانية أنها تهتم بالدنيا أي العالم الذي نراه وتريد أن تعمره وتبنيه فما الخطأ في ذلك؟ وتضيف أنا لست مع الإلحاد ولست ضد الدين بل أترك الآخرة كلها للأديان فصدقوا ما شئتم فأنا أقف على الحياد ولا أهتم بهذه المواضيع ولا أنافس الأديان ناهيك عن محاربتها أنا أريد أن أتبع ما يصلح للدنيا مما أثبته العقل والعلم

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحرية التي يكفلها الإسلام للجميع تتيح لهم اختيار ما يشاءون، واهتمام العلماني بالدنيا خيار مكفول إذا كان شأناً خاصاً، أما إذا كانت العلمانية شاناً عاماً فلن تترك الإسلام في حاله طالما تعمل على تهميشه وابعاده عن ساحة التأثير السياسي والاجتماعي، فالعلمانية تقوم (بنفي أي دور (للإلهي) أو (الديني) في تنظيم شؤن المجتمع العامة كالإدارة والسياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة)[1] والعلمانية ضمن هذا التصور ترى نفسها غير معنية بالشأن الإسلامي، مع أن ذلك ليس صحيحاً في الجملة وبالإمكان مقاربة الأمر بالشكل الذي يجعلها متدخلة بامتياز، وذلك أولاً: لكونها أحدثت شرخاً في بنية المجتمع الإسلامي، حيث تولدت قناعات جديدة داخل المجتمع الإسلامي تعاطت مع الإسلام بوصفه حالة فردية منفصلة عن الهموم الحياتية. وثانياً: ظهور محاولات جادة تعمل على تقديم قراءة إسلامية تقوم على أساس علمنة الإسلام أو أسلمة العلمانية، الامر الذي يجعلها حاضرة وبقوة داخل النقاش الإسلامي الإسلامي، وعليه فمن السذاجة تسويق العلمانية بوصفها لا تشكل أي تدخل في الدين ولا تعمل على ابراز مفاهيمها الخاصة للإسلام، فعلى أقل التقديرات أن مقولة فصل الدين على الدولة تعد تدخلاً سافراً في القناعات الدينية؛ لأن الإسلام ليس مجرد تجربة ذاتية أو حالة من الاستبطان الداخلي أو التأمل الروحي الفرداني، وإنما هو برنامج حضاري يتعدى السلوك الفردي إلى السلوك الجماعي، وبالتالي هو رؤية حضارية للإنسان بكلا بعديه المادي والروحي، ومن هنا يتصادم الإسلام مع أي رؤية حضارية أخرى تعمل على تهميشه وابعاده.

 

ومع كل ذلك لابد من الاعتراف بإشكاليات الخطاب الإسلامي المعاصر، ففي ظل التحديات التي تفرضها ثقافة العصر وفي ظل هذا التباين الذي تحفل به الساحة الإسلامية يجد المسلم صعوبة بالغة في تحقيق فهم ناضج للإسلام، ومن هنا يجد البعض نفسه أمام خيارات محددة، فإما أن يهمش الإسلام بالمطلق، وإما أن تقلص ادواره الي حدود الشأن الفردي والتجربة الشخصية، وإما أن يعاد انتاجه من جديد بحسب شروط الواقع الراهن. ولكل واحدة من هذه الخيارات انصاراً عبروا من خلالها عن مشروعهم الحداثي. فالتيارات اللا دينية وبخاصة الإلحاد الجديد قد تبنى الحداثة بالشكل الذي لا يسمح للدين بالوجود والفاعلية، في حين أن التيار العلماني بشكل عام عمل على عزل الدين من المشهد السياسي والاجتماعي، وفي نفس الوقت سمح له بالوجود في حدود التجربة الشخصية، أما تيارات التجديد الإسلامي فقد عملت على تقديم قراءة جديدة للنص الديني تستوعب الحداثة.

 

وفي ظني أن كل هذه الخيارات انطلقت من فهم مغلوط تصور أن الحداثة هي قوالب جاهزة يمكن اسقاطها على المجتمع الإسلامي، ومن اجل ذلك أصبحت خياراتهم هي: إما أن يتم تقليص الإسلام وتحديده بالشكل الذي يجعله مجرد سلوك فردي لكي يتناسب مع قالب الحداثة، وإما نقوم بنفي الإسلام تماماً لكونه لا ينسجم بتاتاً مع هذا القالب، وأما أن نقوم بتعديل الإسلام نفسه والتصرف في عقائده وتوجيهاته حتى يصبح معبراً عن مشروع الحداثة الغربي. وكل ذلك فهم مشوه للحداثة تبعه فهم مشوه للإسلام، فالحداثة في الحقيقة هي لحظة انطلاق الي الامام من خلال تحريك داخلي للمكونات وعناصر القوة من أجل الدفع بالإنسان قدماً إلى الأمام، ومن هذه الزاوية يجب أن لا يكون مشروع الحداثة الإسلامية عبارة عن استعارة ناشزة لمنجزات الحضارة الغربية، كما يجب أن لا يكون على حساب دلالات النصوص الإسلامية.

 

وعليه لا بد من السعي في تأسيس حداثة خاصة ليس بالضرورة أن تكون مشابهة للحداثة الغربية، فالمدنية الإسلامية مدنية تتحرك ضمن نظام قيمي متكامل بعكس الحداثة الغربية التي قامت على بعض القيم مع اهمال القيم الأخرى، فقيمة العلم والعقل والعدالة والحريات والتعاون والمساواة والحقوق والرحمة .. كل ذلك يعد من أسس الحداثة وقد تكفل الإسلام بهذه القيم،  فمشكلتنا كمسلمين قدمت لنا الحداثة في عناوينها الهامشية مثل تبرج النساء أو المساواة بين الرجل والمراءة وشغلونا في إيجاد مقاربات لهذه القضية، كما شغلونا بالحريات الفردية وروجوا لها على انها هي قيم الحداثة التي لا يقبلها الإسلام، في حين أن الحداثة هي تقديم العلم والعدالة الاجتماعية والشورى والتعاون والتنمية والتطوير في كل مجالات الحياة وكل ذلك لا يتعارض مع الإسلام بل على العكس من ذلك الإسلام يأمر به ويشجع عليه، فالنموذج الغربي كان خادعاً حتى ألبس الامر علينا فظننا أن مشكلتنا في إسلامنا ولا يمكن الخروج من هذا التخلف إلا إذا خرجنا من ديننا، واصبح كل همنا الدفاع عن إسلامنا ضمن عناوين هامشية وتركنا القيم الإسلامية التي تحقق لنا نهضة حضارية متميزة.

 

وفي الختام ليست مشكلتنا مع العلماني بأن يهتم بدنياه وإنما مشكلتنا معه عندما يحول هذا الاهتمام إلى مشروع يقوم على تهميش الإسلام واستبعاده.

 

 

[1] - الصراع بين التيارين الديني والعلماني، محمد كامل ضاهر، دار البيروني بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، ص 114