التّعبّدُ بجميعِ الأديان 

هل يصحُّ التّعبّدُ بجميعِ الأديانِ والمذاهبِ بدليلِ هذهِ الآيةِ؟ قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَن آَمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ) البقرة- آية (62) 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

قبلَ الإجابةِ المباشرةِ على السّؤالِ لابدَّ مِن رسمِ صورةٍ عامّةٍ للواقعِ الثّقافيّ الذي خرجَ مِن رحمِه هذا السّؤالُ، فمنَ الواضحِ أنَّ المُبرّرَ الموضوعيَّ الذي يرتكزُ عليهِ السّؤالُ يعودُ إلى ظهورِ بعض التّوجّهاتِ الثّقافيّةِ التي تعملُ على إلغاءِ الحدودِ الفاصلةِ بينَ الأديانِ، حيثُ لوحظَ في الفترةِ الأخيرةِ إهتمامُ بعضِ الوسائطِ الإعلاميّةِ بالتّرويجِ لنظريّةِ تعدّدِ الأديانِ داخلَ الوسطِ الإسلاميّ، وتقومُ هذهِ النّظريّةُ على عدمِ الإعترافِ بوجودِ دينٍ واحدٍ يكونُ مُحتكِراً للحقيقةِ وللخلاصِ دونَ غيرِه منَ الأديانِ، وإنّما جميعُ الأديانِ لها نحوٌ منَ الإرتباطِ بالحقيقةِ المُطلقةِ أو كما يُقالُ: كلُّ الطّرقِ تؤدّي إلى روما، وعليهِ ترى التّعدّديّةُ الدّينيّةُ أنَّ الحقَّ أمرٌ مشتركٌ بينَ جميعِ الأديان، وكلُّ واحدٍ مِن هذهِ الأديانِ يُحقّقُ النّتيجةَ نفسَها بالنّسبةِ لأتباعِه، وقد بدأت هذهِ الفكرةُ في الغربِ المسيحيّ على يدِ الفيلسوفِ البريطانيّ جون هيك، ومعَ أنَّ جون هيك لم يكُن يسعى لمنحِ المشروعيّةِ اللّاهوتيّةِ لجميعِ الأديانِ بل على العكسِ مِن ذلكَ حيثُ عملَ على زعزعةِ الثّقةِ الدّينيّةِ التي تنطلقُ في العادةِ مِن كونِها مُنجزَاً إلهيّاً غيرَ قابلٍ للتّغييرِ، فأرادَ بذلكَ أن يمنعَ الأديانَ مِن مُحاكمةِ الواقعِ برؤيةٍ أحاديّةٍ لا تستوعبُ التّعدّدَ، وعليهِ فإنَّ مُنطلقاتِ النّظريّةِ في الأساسِ تتحرّكُ في الإطارِ المعرفيّ ولا علاقةَ لها بجعلِ الأديانِ جميعها حقّاً إلهيّاً مقدّساً، كما أنّهُ لم يبحَث فقط في تقديمِ معالجاتٍ سياسيّةٍ وإجتماعيّةٍ حولَ صلاحيّةِ النّظمِ الدّينيّةِ وإنّما تعدّى ذلكَ إلى مناقشةِ بُنيةِ الأديانِ بوصفِها مُنجزاً تاريخيّاً كأيّ مُنجزٍ آخر، وبعيداً عنِ المُلاحظاتِ المنهجيّةِ والمعرفيّةِ حولَ طبيعةِ هذهِ النّظريّةِ، إلّا أنّها وُظّفَت في الوسطِ الإسلاميّ بغرضِ فكِّ الإرتباطِ الرّوحيّ والوجدانيّ والعقديّ بينَ المُسلمِ والإسلامِ، حيثُ إستهدفَت النّظريّةُ ضربَ المُسلّماتِ الإسلاميّةِ القائمةِ على كونِ الإسلامِ هوَ الرّسالة الخاتمة والنّاسخة لِما سبقَها منَ الرّسالاتِ، وعلى خلافِ هذهِ المُسلّمةِ تمَّ التّرويجُ لتعدّدِ الأديانِ تحتَ مظلّةِ أنَّ جميعَ الأديانِ متساويةٌ مِن جهةِ تمثيلِها لإرادةِ السّماءِ، كما أنّها جميعَها تمتلكُ نفسَ الضّماناتِ التي توفّرُ الخلاصَ للإنسانِ يومَ القيامةِ، وعندَها لا يبقى للإسلامِ أيُّ خصوصيّةٍ تُميّزُه ولا يكونُ فيهِ أيُّ حافزٍ يدفعُ للتّمسّكِ بهِ دونَ غيرِه منَ الأديان. 

وفي الفترةِ الأخيرةِ ظهرَت هذهِ النّظريّةُ بثوبٍ جديدٍ وهوَ الدّعوةُ إلى ديانةٍ واحدةٍ تحتَ مُسمّى الإبراهيميّةِ، وهيَ في الحقيقةِ ليسَت إلّا واجهةً جديدةً مِن وجوهِ الحربِ على الإسلامِ، فما يُروّجُ لهُ اليومَ باسمِ الدّينِ الإبراهيميّ لا يستهدفُ إلّا الإسلامَ بوصفِه المُنافسَ الحقيقيَّ لكلِّ المشاريعِ الدّينيّةِ وغيرِ الدّينيّةِ، فالقرآنُ بما فيهِ مِن حِكم وأحكام يُمثّلُ الضّميرَ الأخلاقيَّ الرّادعَ لكلِّ المشاريعِ الإستكباريّةِ، كما يُمثّلُ الرّؤيةَ الحضاريّةَ المُهدّدةَ لمشاريعِ أربابِ السياسةِ والإقتصادِ العالميّ، فبعدَ أن فشلَت الخططُ الرّاميةُ لجعلِ العالمِ مُلحِداً وخالياً منَ الأديانِ، عمدوا على إزاحةِ الأديانِ وتهميشِها عنِ المشهدِ السياسيّ والإجتماعيّ مِن خلالِ العلمنةِ وسلطةِ الإنسانِ بعيداً عَن سلطةِ اللهِ، وقد نجحوا في ذلكَ بنسبةٍ كبيرةٍ إلّا أنَّ الإسلامَ ما زالَ مُتحدّياً لكلِّ الجهودِ الرّاميةِ لإبعادِه عنِ السّاحةِ الحياتيّةِ للإنسانِ، فكانَ مشروعُ الدّبلوماسيّةِ الرّوحيّةِ الذي يعملُ على تكوينِ دينٍ جديدٍ يسهلُ ترويضُه بما يخدمُ الهيمنةَ والإستكبارَ العالمي.

 

وفي ظلِّ هذهِ الموجةِ الثّقافيّةِ ظهرَت بعضُ العقليّاتِ مِن داخلِ الدّائرةِ الإسلاميّةِ تبحثُ عنِ المُستندِ القرآنيّ لهذهِ النّظريّةِ، ومِن أكثرِ الآياتِ التي إعتُبرَت دليلاً على التّعدّديّةِ الدّينيّةِ هيَ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ) وما يؤسفُ لهُ أنَّ بعضَ رجالِ الدّينِ قد تورّطوا في فهمِ هذهِ الآيةِ، حيثُ إعتبرَ البعضُ أنَّ الآيةَ تمنحُ الحقَّ لصاحبِ كلِّ دينٍ أن يتمسّكَ بدينِه طالما هوَ يراهُ حقّاً، فالآيةُ بناءً على هذا التّفسيرِ تشهدُ بنجاةِ اليهودِ والنّصارى والصّابئينَ الذينَ آمنوا باللهِ واليومِ الآخرِ وعملوا صالحاً، وسببُ الإشتباهِ الذي قادَهم لهذا التّفسيرِ هوَ كونُ الآيةِ جاءَت مُطلقةً ولم تُقيّد أو تُخصَّص، وعليهِ لا يُشترطُ في النّجاةِ يومَ القيامةِ أن يكونَ الإنسانُ على دينِ الإسلامِ؛ بَل كلُّ مَن يرى دينَه صحيحاً يكونُ ناجياً بحسبِ هذا التّفسير، ومنَ الواضحِ أنَّ هذا الفهمَ لا يعدو أن يكونَ محاولةً ساذجةً تتخطّى كلَّ الضّوابطِ المرعيّةِ في فهمِ النّصوصِ، فالقرائنُ المُخصّصةُ للعمومِ أو المُقيّدةُ للإطلاقِ لا يشترطُ في وجودِها الإتّصالُ المباشرُ داخلَ النّصِّ، وإنّما يتعدّى وجودُها نفسَ النّصِّ لتشملَ كلَّ القرائنِ المُنفصلةِ سواءٌ كانَت لفظيّةً أو لُبّيّةً، فالآيةُ لا يتمُّ فهمُها بمعزلٍ عمّا جاءَ في القرآنِ مِن آياتٍ أخرى، وقد نبّهَ القرآنُ نفسُه مِن خطورةِ هذا الموقفِ بقولِه: (الَّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ)، فالقرآنُ في حقيقتِه وحدةٌ موضوعيّةٌ متكاملةٌ ومترابطةٌ ليسَ فيهِ تناقضٌ أو إختلافٌ، قالَ تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ ۚ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافًا كَثِيرًا) ومِن هُنا لا يمكنُ الإكتفاءُ في تفسيرِ الآيةِ بالقرائنِ المُتّصلةِ وإنّما يجبُ البحثُ عنها في بقيّةِ الآياتِ، وفيما يتعلّقُ بهذهِ الآيةِ هناكَ العشراتُ منَ الآياتِ التي تُقيّدُ ما في هذهِ الآيةِ مِن عمومٍ وإطلاق، ومثالٌ على ذلكَ قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَو نَصَارَىٰ تَهتَدُوا قُل بَل مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ.. إلى قوله.. فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ فَسَيَكفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)، فالآيةُ واضحةٌ في كونِ الخيار أمامَ اليهودِ والنّصارى هوَ الإيمانُ بمثلِ ما آمنَ بهِ المُسلمونَ، فكيفَ بعدَ ذلكَ يحكمُ البعضُ بنجاتِهم وهُم خارجَ دائرةِ الإسلامِ؟ والقرآنُ بكلِّ آياتِه يشهدُ بأنّه الحقُّ الذي ليسَ دونَه إلّا الضّلالُ والهلاكُ، هذا مُضافاً لِما جاءَ في الرّواياتِ وما حكمَ بهِ العقلُ بانحصار الحقِّ وعدمِ قابليّتِه للتّعدّدِ والتّكثّرِ، بل كيفَ يمتلكُ الإسلامُ مُبرّراً ليدعو النّاسَ للإيمانِ به وما هوَ موجودٌ مِن أديانٍ فيهِ الكفاية؟ وبخاصّة أنَّ الإسلامَ لم يستثنِ أتباعَ الأديانِ في دعوتِه للإيمانِ بهِ قالَ تعالى: (يَا أَهلَ الكِتَابِ قَد جَاءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم عَلَىٰ فَترَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَد جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) وعليهِ فإنَّ تفسيرَ الآيةِ محلِّ السّؤالِ يقودُنا للقولِ أنَّ الأديانَ السّماويّةَ السّابقةَ هيَ مِن عندِ اللهِ تعالى ومَن عملَ على مُقتضاها في وقتِها يكونُ ناجياً يومَ القيامةِ، فالآيةُ في الواقعِ إجابةٌ عَن سؤالٍ تفرضُه البديهيّةُ، فعندَما حصرَ الإسلامُ الحقَّ فيهِ تساءلَ البعضُ عَن مصيرِ الأديانِ السّابقةِ، فكانَت هذهِ الآيةُ إجابةً عَن ذلكَ السّؤالِ حيثُ كشفَت عَن نجاةِ مَن كانَ منهُم مؤمناً باللهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالِحاً، أمّا بعدَ نزولِ القرآنِ فلا مُبرّرَ لهُم في عدمِ الإيمانِ به.

وقد حاولَ البعضُ تبريرَ هذا التّفسيرِ المُنحرفِ للآيةِ بدليلٍ عقليّ، حيثُ ثبتَ في علمِ الأصولِ أنَّ الإنسانَ إذا كانَ قاطِعاً بفكرةٍ مُعيّنةٍ فإنَّ قطعَه يكونُ مُنجزاً في حقِّه ومُعذراً إذا عملَ على مُقتضاه، أي لا يكونُ مؤاخذاً حتّى وإن كانَ قطعُه خلافاً للواقعِ، إلّا أنّهُ إستدلالٌ في غيرِ محلّه، حيثُ قصدوا بحُجّيّةِ القطعِ حُجّيّةَ العلمِ، ومنَ الواضحِ أنَّ العلمَ الذي يكونُ حُجّةَ هوَ العلمُ الكاشفُ للواقعِ، أو القائمُ في كشفِه على مستندٍ منطقيٍّ وعقلانيٍّ، أمّا القطعُ الذي هوَ أعمُّ منَ العلمِ ومنَ (الجهلِ المُركّبِ) لا يكونُ حُجّةً إلّا إذا قامَ على دليلٍ وبرهانٍ مقبولٍ عندَ جميعِ العُقلاءِ، بمعنى أن يكونَ مُستندُه ليسَ مُستنداً شخصيّاً وإنّما مُستنداً عامّاً بحيثُ كلُّ مَن يقفُ عليهِ يرى الواقعَ كما يراهُ القاطعُ، وعليهِ فإنَّ القطعَ الشّخصيَّ القائمَ على أسبابٍ غيرِ علميّةٍ لا يكونُ مُبرِئاً للذّمّةِ، فقَد يقطعُ الإنسانُ بصحّةِ ما عليهِ بسببِ البيئةِ أو العادةِ أو المصلحةِ أو غيرِ ذلكَ، ممّا لا يُعتدُّ بهِ في مجالِ التّمييزِ بينَ الحقِّ والباطل، قالَ تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لَا يَعقِلُونَ شَيئًا وَلَا يَهتَدُونَ).

وعليهِ فإنَّ التّباينَ الموجودَ بينَ الإسلامِ والأديانِ الأخرى هوَ تباينٌ بينَ الحقِّ والباطلِ، وللتّرجيحِ بينَهم لا يُعتمدُ على الآراءِ الخاصّةِ وما يقطعُ بهِ صاحبُ كلِّ دينٍ أو مذهبٍ، وإنّما الحُجّةُ والبرهانُ التي تفيدُ العلمَ عندَ جميعِ العقلاءِ هوَ المُرجّحُ في ذلكَ، وبالتّالي لا تكونُ ذمّةُ الإنسانِ فارغةً ما لم يحصُل لهُ العلمُ ويُقدّم البرهانَ على مُدّعاهُ قالَ تعالى: (قُل هاتوا برهانَكم إن كُنتم صادقينَ) والبرهانُ هوَ الذي يُمثّلُ مُشترَكاً بينَ جميعِ العقلاءِ وعليهِ تدورُ الحقائقُ، أمّا القطعُ الشّخصيُّ الذي لا يستندُ على البرهانِ لا يُنجي الإنسانَ في الدّنيا فضلاً عنِ الآخرةِ، ونحنُ كمُسلمينَ قامَ البرهانُ لدينا بصحّةِ ما جاءَ في القرآنِ الكريمِ وهذا يقودُنا بالبديهيّةِ إلى ضلالِ كلِّ الأديانِ الأخرى غيرِ الإسلام.