هل للدّينِ علاقةٌ بفقرِ وغِنى الإنسان؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: 

يبدو أنَّ السّائلَ يبحثُ عمَّن يتحمّلُ المسؤوليّةَ فيما يصيبُ الإنسانَ مِن غنىً وفقر، والسّؤالُ عَن علاقةِ الدّينِ بذلكَ يضطرُّنا للحديثِ ولو بشكلٍ عامٍّ عَن فلسفةِ الدّينِ ودورِه في الحياةِ، فإذا حاولنا أن نضعَ تصوّراً كليّاً للدّينِ وبحثنا عن علاقتِه بالإنسانِ في الحياةِ الدّنيا، فإنَّ ذلكَ يقودُنا بالتّأكيدِ إلى كونِه نظاماً عقديّاً وتشريعيّاً يعملُ على تقويمِ الإنسانِ معرفيّاً وسلوكيّاً، فعندَما يمتلكُ الإنسانُ رؤيةً معرفيّةً تستبطنُ الإجابةَ الواقعيّةَ عَن كلِّ الأسئلةِ الوجوديّةِ، وعندَما يمتلكُ تشريعاتٍ وتوجيهاتٍ أخلاقيّةً تضبطُ علاقاتِه معَ كلِّ الحقائقِ الأخرى في الوجودِ، فإنَّ النّتيجةَ الحتميّةَ هيَ إستقامةُ مسيرةِ الإنسانِ وبناءُ حياةٍ سعيدةٍ في هذهِ الدّنيا، والإنسانُ ضمنَ هذهِ المُعادلةِ هوَ المسؤولُ الأوّلُ والوحيدُ عَن تحقيقِ تلكَ الأهدافِ، فالدّينُ ضمنَ هذا التّصوّرِ لا يمكنُ أن يكونَ بديلاً عَن إرادةِ الإنسانِ وإختيارِه، لأنَّ الدّينَ ليسَ إلّا مشروعاً ناجِحاً لمَن يعملُ بهِ ويُطبّقُ توصياتِه، ولتقريبِ الأمرِ نضربُ مثلاً بالمراكزِ المُختصّةِ في وضعِ دارساتٍ لمشاريعَ تجاريّةٍ ناجحةٍ، فالذي يبحثُ عنِ الرّبحِ التّجاريّ ما عليهِ إلّا إختيارُ دراسةٍ ومِن ثمَّ العملُ على تنفيذِها كما هيَ من دونِ زيادةٍ أو نقصان، وبالتّالي نجاحُ المشروعِ ليسَ موقوفاً على نجاحِ الدّراسةِ وإنّما يتوقّفُ على نجاحِ الإنسانِ الذي يعملُ على تنفيذِ تلكَ الدّراسةِ، وهكذا الحالُ بالنّسبةِ للدّينِ فإذا إلتزمتِ الإنسانيّةُ بما جاءَ بهِ الأنبياءُ لما كانَ هناكَ صاحبُ حاجةٍ، قالَ تعالى: (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ)، وليسَ بالضّرورةِ أن تكونَ هذهِ البركاتُ بسببِ سلطةٍ غيبيّةٍ، وإنّما يكفي أن يقومَ الجميعُ بمسؤوليّاتِهم حتّى تتزنَ الحياةُ ويعمَّ الخيرُ الجميعَ، فما يكسبُه الإنسانُ بيديهِ هوَ الذي يُحدّدُ مصيرَه في الدّنيا كما يُحدُّدها في الآخرةِ، وعليهِ لا يتوقّعُ الفقيرُ أن ينوبَ عنهُ الدّينُ في حلِّ مُشكلتِه المادّيّةِ، فكلُّ ما هوَ موجودٌ مِن فقرٍ وحاجةٍ في العالمِ يعودُ إلى ضياعِ العدالةِ وتقاسمِ الثّروةِ، أو كما يقولُ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام): (ما رأيتُ نعمةً موفورةً إلّا وإلى جانبِها حقٌّ مُضيّعٌ) ويقولُ عليه السّلام: (فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ) فالفقرُ يتحمّلُ مسؤوليّتَه جميعُ البشريّةِ ولا علاقةَ للدّينِ الذي أمرَهُم بالعدلِ وحثّهم على البذلِ ورغّبَهم في العطاءِ، كما لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ الدّينَ حرّمَ الغِنى والثّروةَ طالما كانَت مِن حلاٍل وتبذّلٍ في الحلالِ، قالَ تعالى: (قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً..) فقَد أكّدَت هذهِ الآيةُ على أنَّ اللهَ لم يُحرّم زينةَ الحياةِ الدّنيا التي جعلَها اللهُ لعبادِه، وعندَما نبحثُ عَن مواصفاتِ هذهِ الزّينة الدّنيويّةِ التي لم يُحرّمها اللهُ على عبادِه نجدُها في قولِه تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَآَبِ) فكلُّ ذلكَ يكونُ حلالاً بشرطينِ، الأوّلُ: إذا كانَ طيّباً (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ) فيجوزُ للإنسانِ التّمتّعُ بالنّساءِ والأولادِ والأموالِ والذّهبِ والخيلِ إذا كانَ عَن طريقٍ شرعيٍّ، يقولُ الإمامُ عليّ (عليه السّلام): خمسٌ مَن لم تكُنَّ فيهِ لم يتهنَّ بالعيشِ: الصّحّةُ، والأمنُ، والغِنى، والقناعةُ، والأنيسُ الموافقُ). والثّاني: أن لا يكونَ سبباً في منعِه مِن متاعِ الآخرةِ، (وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَآَبِ) وعليهِ فإنَّ الإستقامةَ تقومُ على الموازنةِ بينَ الدّنيا والآخرةِ من دونِ إفراطٍ أو تفريط، قالَ تعالى: (وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا) فهدفُ الإنسانِ يجبُ أن يكونَ رضى اللهِ تعالى والسّعيَ للحياةِ الأبديّةِ في جنّةٍ عرضُها السّماءُ والأرضُ، والثّروةُ والغِنى مِن أهمِّ الإمكاناتِ الدّنيويّةِ التي يمكُن أن يُوظّفها الإنسانُ للفوزِ بتلكَ الحياةِ الأبديّةِ، قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (نعمَ العونُ على تقوى اللهِ الغِنى)، وقالَ تعالى: (..

أَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ) وقالَ تعالى: (وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

وبما أنَّ الإنسانَ لا يحتاجُ إلى مَن يُذكّرُه بمتاعِ الدّنيا نجدُ أنَّ أكثرَ الآياتِ تُذكّرُه بمتاعِ الآخرةِ، إلّا أنَّ ذلكَ لا يعني أنَّ اللهَ حرّمَ على عبادِه التّمتّعَ بالدّنيا، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ) فالمطلوبُ فقط في قِبالِ هذهِ النّعمِ هوَ شكرُ اللهِ الذي سخّرَ كلَّ شيءٍ مِن أجلِ الإنسانِ، والشّكرُ يقتضي الإلتزامَ بالقيمِ والأخلاقِ الفاضلةِ وعدمَ التّعدّي على حقِّ الآخرينِ ومشاركةِ المُحتاجينَ وغيرِ ذلكَ، وعليهِ فإنَّ الدّينَ ليسَ لهُ علاقةٌ مباشرةٌ في أن يكونَ البعضُ غنيّاً أو فقيراً، وإنّما علاقتُه تقومُ على تقديمِ التّوصياتِ والتوجيهاتِ التي تجعلُ الإنسانَ سعيداً في الدّنيا والآخرة.