الحرية الفكرية في الاسلام

كيف يعرف الاسلام حريه الفكر؟ وما هو مداها ومجالها؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لا يمكن ضبط مصطلح (الحرية الفكرية) مالم نتمكن اولاً من ضبط المفهوم الدلالي لكلمة حرية، ولقد تعرضنا في إجابة سابقة لوضع الحدود العامة لمفهوم الحرية، وقد اكدنا هناك على أن الحرية ليست مطلق القدرة على الاختيار، بمعنى أن الإنسان الحر لا يحق له أن يختار بحسب ما يمليه هواه وإنما لابد من وجود مرجحات موضوعية خارج حدود الذات الإنسانية، وهذا بخلاف الحرية في بعض الثقافات العصرية التي تعمل على تضخيم الذات على حساب الحق والحقيقة، فالحرية ضمن المقاربات الحديثة تعني أن الإنسان حر في اختيار ما يناسبه من دون وجود أي سلطة على خياراته، سوى كانت سلطة أخلاقية أو سلطة دينية أو سلطة عقلية، والحرية بهذا المفهوم لا تعترف بالمرجحات الموضوعية لأن تلك المرجحات تمارس تأثير خارج حدود الذات، والحرية بهذا المعنى حرية لا معيارية؛ لأنها لا تعترف بالقيم التي تحتفظ بها الحقائق الخارجية، أي أن كل الحقائق نسبية فلا وجود لحق وباطل، أو خير وشر، وإنما الحق والباطل يدور مدار ما يراه الإنسان حقاً أو باطلاً، أو كما يعبر بعضهم بأن الخير ليس لكونه خير في الواقع وإنما الخير لأني أراه خير، وعليه كل ما يختاره الإنسان هو الحق بالنسبة له ولا وجود للحقيقة خارج ما يختاره الإنسان، وهذا في الواقع تشويه لمفهوم الحرية نابع من رؤية مشوه للإنسان وللقيم الموضوعية للأشياء، فالإنسان لا يعيش في الفراغ ليفعل ما يشاء وليس هو خالق الأشياء لكي يفعل فيها ما يريد، وإنما يعيش الإنسان ضمن واقع فيه حق وباطل، وخير وشر، وجميل وقبيح، وظلم وعدل، وعلى الإنسان أن يمارس حريته في اختيار الحق على الباطل، والخير على الشر، والجميل على القبيح، والعدل على الظلم، وهكذا تتموضع حرية الإنسان ضمن إطار المسؤولية، فالحرية ليست مطلق القدرة على الاختيار وإنما تعني المسؤولية عما يختاره، فالإنسان ليس مجرد كائن حر وحسب وإنما عاقل يتحمل مسؤولية خياراته، ولذا نجد القرآن لم يتناول الحرية بوصفها القيمة الحاكمة على خيارات الإنسان، وإنما جعل المسؤولية هي القيمة الحاكمة على خياراته، ودور العقل في الحرية هو تحديد الخيارات الجيدة التي يجب ان يختارها، وبالتالي فتح الطريق امام الإنسان ليمارس اختياراته العقلانية في الحياة ضمن الخطة التي تخدم غايته العليا، وهذه الخيارات العقلانية مرتكزة على مجموعة حقائق منها فطرية، وعقلية، واخلاقية، ودينية، وعلمية، وبهذا الشكل ينتقل الإنسان من كونه كائن أناني وشهواني يتحرك بدون بصيرة حياتية، إلى مخلوق عاقل ومنضبط بمنظومة من القيم الأخلاقية ومتسامي عن رغباته الدونية. وهكذا يصبح الإنسان ملزماً بالبحث عن الفكر الصحيح الذي يمثل الحق وليس من حقه أن يتبنى فكراً باطلاً تحت مظلة الحرية الفكرية، والعامل الذي يرجح فكرة على فكرة ليس الحرية الشخصية اللامعيارية وإنما البرهان العلمي والدليل المنطقي، ولا يعني هذا أننا نصادر قدرة الإنسان على التمرد وعدم الالتزام بالحق، وإنما يظل الإنسان حراً في أن يقبل بالحق أو لا يقبله؛ فالإلزام الذي نقصده ليس السلطة التي تجبر الإنسان وإنما الإلزام الذي تفرضه المسؤولية على الإنسان، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فالرشد والغي حقائق موجودة في الخارج وهي التي تلزم الإنسان بضرورة اجتناب الغي واتباع الرشد، وفي خاتمة المطاف يمكن للإنسان أن يتنصل عن مسؤوليته ليعطي نفسه الحق في أن يتبنى من الأفكار ما يناسب هواه إلا أنه سوف يحاسب على خياراته، قال تعال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) وفي المحصلة يمكننا أن نقول إن الحرية الفكرية في الإسلام تعني مسؤولية الإنسان في البحث عن الفكر الذي ينسجم مع الحق ويحافظ على كرامة الإنسان ضمن الفضيلة وقيم الأخلاق. ومن ذلك يتضح لنا حدود الحرية الفكرية التي أتاحها الإسلام للإنسان، وهي مساحة واسعة يتحرك فيها الإنسان من أجل تحقيق الغايات التي خلق من أجلها، فقيمة الإنسان ضمن منظور الأديان هو في ما يمتلكه من عقل وإرادة، ومن هنا تعمل الأديان على تزكية النفس عن كل ما يعيق العقل والإرادة، ومن ثم تعليمه وتبصيره حقائق الحياة، وبعد ذلك ترسم له أهداف عالية وغايات سامية، لينطلق الإنسان في مدارج الكمال والجمال، وبذلك يمارس الإنسان حريته في إطار تحقيق تلك الأهداف بحسب ما تمليه عليه الظروف الموضوعية، والإنسان العاقل في منطق القرآن وهو القادر على اختيار السبيل الأقرب لأهدافه وغاياته، قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) فدائماً هناك ما هو أحسن من بين الخيارات وعلى الإنسان أن يطمح دائماً لما هو أفضل، وعليه الحرية متاحة في إطار الدين إلا أنها محكومة بالمسؤولية.