ممكن نعرف علاقة "سنن التاريخ" بالقضية الحسينية ؟ هل تعتبر للطاغية سنن الإملاء والاستدراج ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

   قبل الإجابة لابد من توضيح مختصر لمصطلح (سنن التاريخ) فمن خلال الوقوف عليه يمكننا التعرف على النهضة الحسينية وما يمكن أن تمثله في إطار هذه السنن. فسنن التاريخ هي القوانين التي تحكم حركة الأمم والمجتمعات، ولا يقصد بالتاريخ هنا مجرد حدث وقع في الماضي، وإنما المقصود هو حركة الإنسانية عبر الزمان، وعليه فان سنن التاريخ وصف يشمل ماضي وحاضر ومستقبل البشرية، فهي قوانين وجدت بوجود الإنسان ومستمرة معه إلى نهاية الحياة الإنسانية، والمقصود بالسنن والقوانين هي ما له علاقة بالفعل الاختياري للإنسان فلا يدخل فيها القوانين الطبيعية مثل الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية وغير ذلك من قوانين الطبيعة، فالفعل الاختياري محكوم بمجموعة من المعادلات، ولكل معادلة نتائجها الخاصة، وعلى الإنسان أن يختار من بينها ما يحقق أهدافه وغاياته، ومن هنا لا يمكن فهم السنن التاريخية بوصفها مصادرة لإرادة الإنسان واختياره، وإنما إرادة الإنسان هي المسؤولة عن خياراتها وفقاً لهذه السنن التاريخية، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فالآية تدعوا للتدبر والتفكر في الحوادث التاريخية من اجل الوقوف على السنن والنواميس المتحكمة في تلك الاحداث، والفائدة المستخلصة من معرفة السنن هي معرفة أسباب الفوز والخسران، فقد أشارت الآية إلى كون الاعتماد على القوة المادية والاعتداد بها بعيداً عن قوة الحق والعدل المنبعث من الإيمان بالله ليس كافياً لحماية الحضارات والمجتمعات، بالتالي تشير الآية إلى سنة ثابتة لا يمكن أن يعتريها التبدل والتغير، فكل حضارة مستكبرة تقوم على الظلم والتعدي والابتعاد عن الله وقيم الحق مصيرها الهلاك مهمها امتلكت من قوة مادية وعسكرية، وقد اكدت الآية التي قبلها على هذه السنة وهي قوله تعالى: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي أن الأمم المستكبرة التي تطغى على غيرها من الأمم وتمكر بهم فان مكرها سيكون وبالاً عليها، فالظلم عاقبته وخيمة على الظالم نفسه ونهايته الهلاك لا محالة، وبذلك نفهم أن هناك سنن حاكمة على الاجتماع الإنساني سوى اصطلحنا عليها بالسنن التاريخية أو بالقوانين الاجتماعية، صحيح أن سنن التاريخ ليست هي الوحيدة الحاكمة على مصير الإنسانية فهناك سنن أخرى تداخل مع سنن التاريخ ويكون لها تأثيرها الواضح على مصير المجتمعات، فسنن الطبيعة مثل الزلازل والأوبية لها انعكاسها الواضح على المسار التاريخي للمجتمعات، ومع ذلك تظل إرادة المجتمعات هي التي ترسم المصير وفقاً لمعادلات الحق والباطل، فالحق يمثل كل قيم الخير والجمال والكمال ويمثل الباطل الشر والقبح والنقصان، واختيار الإنسان يدور بين هذه الخيارات، وسنن التاريخ تحكم دائماً لصالح إرادة الخير على إرادة الشر بشتى الصور وبمختلف المظاهر.

وبذلك نفهم أن سنن التاريخ تسير في اتجاه الحق دائماً بعيداً عن الباطل، والمجتمعات في مسارها التاريخي أما أن تسير في اتجاه الحق أو تسير في الاتجاه الذي يعاكسه، والنتيجة الحتمية وفقاً لسنن التاريخ هو انتصار الحق وزوال الباطل. 

وبذلك يمكننا أن نفهم النهضة الحسينية بوصفها أفضل صورة تمثل انتصار الحق على الباطل، فهي ليست إلا تأكيداً وتعزيزاً لسنة الانتصار الحتمي للحق على الباطل،  قال تعالى: (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فسنة الله في التاريخ أن الحق منتصر حتماً على الباطل مهما امتلك الباطل من مظاهر القوة، وبقاء الحسين (عليه السلام) خالداً ابد الأزمان لأكبر شاهد على هذه السنة، فقد خلد التاريخ الحسين (عليه السلام) حتى اصبح رمزاً لراية الحق على الباطل، أما يزيد ومن ناصره فقد رمى بهم التاريخ في مزابله، وقد صور سيد قطب انتصار الحسين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بقوله: (والحسين ـ رضوان اللّه عليه ـ وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان اللّه عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين! وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال..) وقد صورت مولاتنا زينب (سلام الله عليها) ذلك في خطبتها بمحضر يزيد بقولها: (فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها (أي لا تغسله)، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد)

ومن جانب اخر جسدت كربلاء سنة الاستدراج والاملاء للظالمين، وقد صورت السيدة زينب (عليها السلام) تلك السنة في خطبتها بأروع الكلمات حينما خاطبت يزيد بقولها: (أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده! فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا! أنَسِيتَ قول الله تعالى: ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين؟! ... فوَ اللهِ ما فَرَيتَ إلاّ جِلْدَك، ولا جَزَزْتَ إلاّ لحمك، ولَتَرِدنّ على رسول الله بما تحمّلت مِن سَفكِ دماءِ ذريّتهِ، وانتهكتَ مِن حُرمته في عِترته ولُحمته! حيث يجمع الله شملهم، ويَلُمّ شعَثَهم، ويأخذ بحقّهم. ولا تَحسَبنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون. حَسْبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ خَصيماً، وبجبرئيل ظَهيراً، وسيعلم مَن سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين (أي أبوك معاوية) بئس للظالمين بدلاً! وأيُّكم شرٌّ مكاناً وأضعَفُ جُنْداً)