خلق الله للإنسان من دون رغبة الانسان في هذه الحياة الا يكون فيه ظلما باعتبار ان الحياة هي دار ابتلاء واختبار وربما الانسان لا ينجح بهذا الاختبار فيكون مصيره العذاب؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله 

مُجرّدُ السّؤالِ عَن حِكمةِ خلقِ الإنسانِ من دونِ إختيارٍ منهُ يدلُّ على وجودِ مُسلّمةٍ أوّليّةٍ يمكنُ البناءُ عليها، وهيَ كونُ الإنسانِ كائِناً عاقِلاً يبحثُ عَن أجوبةٍ منطقيّةٍ، كما أنَّ رفضَ الإنسانِ للظّلمِ يدلُّ على مُسلّمةٍ أُخرى وهيَ كونُ الإنسانِ كائِناً أخلاقيّاً يعتمدُ على نظامٍ منَ القيمِ يحاكمُ بهِ الأشياءَ، وإذا تمَّ الإعترافُ بهذهِ المُسلّماتِ حينَها يمكنُ الإجابةُ على السّؤالِ. وهذا ما سنشيرُ إليهِ في عدّةِ نقاطٍ. 

أوّلاً: هذا السّؤالُ لا يكونُ منطقيّاً إلّا بعدَ الإعترافِ بأنَّ الإنسانَ حقيقةٌ موجودةٌ بالفعلِ، والإيمانُ بوجودِ إلهٍ يأتي في المرحلةِ الثّانيةِ بعدَ إيمانِ الإنسانِ بأنّهُ لَم يكُن موجوداً ثمَّ كانَ، والإنسانُ قبلَ أن يكونَ لَم يكُن شيئاً أصلاً فكيفَ يُسألُ عَن رغبتِه أو عدمِها في الحياةِ؟ فلو إفترضنا أنَّ الإنسانَ خُلقَ مِن غيرِ إرادةٍ ومِن غيرِ قُدرةٍ على التّمييزِ بينَ الأشياءِ كما هوَ حالُ الحيوانِ، فهَل يمكنُ أن يُطرحَ مثلُ هذا السّؤالِ؟ وعليهِ فإنَّ مُجرّدَ كونِ الإنسانِ مخلوقاً ذا إرادةٍ ولهُ القدرةُ على الإختيارِ يُعدُّ ميّزةً إضافيّةً خُصَّ بها الإنسانُ، وهذا الأمرُ وحدَهُ يُوجبُ على الإنسانِ أن يكونَ مُمتنّاً لمَن أوجدَه، ومِن هُنا لو خُيّرَ الإنسانُ بينَ أن يكونَ حيواناً أو نباتاً أو جماداً لاختارَ أن يكونَ إنساناً. ومِن هُنا نفهمُ قولَه تعالى: (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلا). 

ثانياً: مِن بديهيّاتِ العقلِ أنَّ الوجودَ أفضلُ منَ العدمِ، والإنسانُ بوصفِه عاقلاً لا يمكنُه تقديمُ العدمِ على الوجودِ، وهذا ما عليهِ حالُ البشرِ جميعاً يحتفلونَ عندَ استقبالِهم لمولودٍ جديدٍ في هذهِ الحياةِ، ويحزنونَ عندَما يُغادرُها، وبالتّالي خروجُ الإنسانِ منَ العدمِ إلى الوجودِ أمرٌ يستوجبُ الشّكرَ وليسَ الجحودَ، ومِن هُنا نبّهنا اللهُ على أن لا نغفلَ عَن هذهِ النّعمةِ بقولِه تعالى: (هَل أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهرِ لَم يَكُن شَيئًا مَّذكُورًا.. إِنَّا خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن نُّطفَةٍ أَمشَاجٍ نَّبتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا). 

ثالِثاً: بعيداً عنِ الأديانِ وما أمرَت بهِ مِن توصياتٍ، وبعيداً عَن فلسفةِ الإبتلاءِ التي إرتكزَت عليها الأديانُ في تلكَ التّوصياتِ، لا بُدَّ أن يكونَ للإنسانِ موقفٌ فيما يتعلّقُ بالحِكمةِ مِن وجودِه، طالما أنَّ وجودَه أصبحَ أمراً مفروغاً منهُ، بمعنى أنَّ الإنسانَ بوصفِه كائناً عاقِلاً يجبُ أن يجدَ إجابةً عَن سببِ وجودِه، وليسَ مِن حقِّه أن يرفُضَ ما قدّمتهُ الرّسالاتُ مِن إجاباتٍ طالما هوَ عاجزٌ عَن إيجادِ البديلِ، وبما أنَّ الإبتلاءَ حقيقةٌ مُتّصلةٌ بالحياةِ لا يمكنُ أن تنفصلَ عنها حينَها يجبُ فهمُها بالشّكلِ الذي يجعلُها نعمةً وليسَت نقمةً، فمُجرّدُ رفضِ الإبتلاءِ لا يجعلُ الإبتلاءَ أمراً معدوماً، وعليهِ كيفَ يجبُ أن يتعاملَ الإنسانُ معَ الإبتلاءاتِ؟ ما جاءَت بهِ الرّسالاتُ أنَّ هذهِ الإبتلاءاتِ وسيلةٌ ينتقلُ بها الإنسانُ إلى حياةٍ أفضل وهيَ الجنّةُ، وبالتّالي حوّلَت الإبتلاءَ إلى فُرصةٍ حقيقيّةٍ أمامَ الإنسانِ، أمّا الذي لا يُؤمنُ بتلكَ الرّسالاتِ لا يمكنُه الفرارُ منَ الإبتلاءِ وفي نفسِ الوقتِ لن يجني ثمارَ الإبتلاءِ، وحينَها يكونُ ظالِماً لنفسِه ولَم يظلِمهُ غيرُه. قالَ تعالى: (وَمَا ظَلَمنَٰهُم وَلَٰكِن كَانُوٓا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ).

رابِعاً: بما أنَّ الإنسانَ كائنٌ أخلاقيٌّ يجبُ أن يفهمَ الحياةَ إنطلاقاً منَ القيمِ، ومنَ الواضحِ أنَّ نسبةَ الشّرِّ في الحياةِ في قبالِ الخيرِ لا تكادُ تُذكَرُ، فالخيرُ هوَ الأصلُ والشّرُّ هوَ الإستثناءُ، وعليه فإنَّ الخيرَ الذي يعمُّ الوجودَ كلَّه يجبُ أن يكونَ هوَ محلَّ النّظرِ والتّفكّرِ وليسَت بعض العقباتِ التي تواجهُ الإنسانَ، فالتّقييمُ السّلبيُّ للحياةِ يُعبّرُ عَن نفسيّةٍ غيرِ سليمةٍ وغيرِ أخلاقيّةٍ، ويبدو أنَّ الإنسانَ يرصدُ الشّرورَ في الكونِ لسببٍ واضحٍ وهوَ أنَّ هذا الشّرَّ محصورُ العددِ، فبإمكانِنا أن نقولَ أنَّ ذاكَ المرضَ شرٌّ، وذاكَ الخُلقَ شرٌّ، وتلكَ الظّاهرةَ الطّبيعيّةَ شرٌّ مِن جهةِ كذا، لكنّنا لا نملكُ في المُقابلِ أن نعُدَّ الخيرَ الذي في العالمِ لأنّهُ بالغُ الضّخامةِ والتّنوّعِ والتّركيبِ، إذ هوَ يحيطُ بنا مِن كُلِّ وجهٍ، فلو نظرَ الإنسانُ في أعضاءِ جسمِه فقط؛ لرأى أعدادًا مهولةً منَ الأمورِ الحسنةِ التي تُوفّرُ لهُ أسبابَ الإستمتاعِ بالحياةِ. وعليهِ فإنَّ الإنسانَ الذي يغفلُ عَن كلِّ ذلكَ ويحرمُ نفسَه منَ الإستمتاعِ بما في الحياةِ مِن نعمٍ لا يلومنَّ إلّا نفسَه (قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزق) فكيفَ بعدَ ذلكَ ينسبُ للهِ الظّلمَ وهوَ الذي سخّرَ لهُ كلَّ هذهِ النّعمَ، قالَ تعالى: (أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).

خامِساً: أتاحَ اللهُ للإنسانِ كلَّ السُّبلِ التي توصلُه إلى الجنّةِ، ونجاحُ الإنسانِ في الحياةِ مضمونٌ لكُلِّ البشرِ، إلّا الذينَ لا يريدونَ، فاللهُ خلقَ الإنسانَ للجنّةِ وليسَ للنّارِ، فأمرَهُ باليسيرِ وغفرَ لهُ الكثيرَ، وجعلَ لهُ السّيّئةَ بواحدةٍ والحسنةَ بعشرةِ أمثالِها، وجعلَ بابَ التّوبةِ أمامَهُ مفتوحاً، فإلى آخرِ لحظةٍ مِن عُمرِ الإنسانِ يُمكنُه التّوبةُ ويتوبُ اللهُ عليهِ ويُدخلُه الجنّةَ. يقولُ الإمامُ الكاظمُ في وصيّتِه لهشام: (وإنَّ أعظمَ النّاسِ قدراً الذي لا يرى الدّنيا لنفسِه خطراً، أما إنَّ أبدانَكُم ليسَ لها ثمنٌ إلّا الجنّةَ فلا تبيعوها بغيرِها). وفي خبرٍ آخرَ يقولُ اللهُ عزَّ وجلّ إنّما خلقتُ الخلقَ ليربحوا عليَّ ولَم أخلقُهم لأربحَ عليهم. وهَل بعدَ ذلكَ يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ خلقَ الإنسانِ فيهِ ظُلمٌ حتّى لو كانَ مِن غيرِ رغبتِه؟  

أمّا قولُ السّائلِ، (باعتبارِ أنَّ الحياةَ هيَ دارُ إبتلاءٍ واختبارٍ وربّما الإنسانُ لا ينجحُ بهذا الإختبارِ فيكونُ مصيرُه العذابَ) حينَها يكونُ الإنسانُ ظالِماً لنفسِه ولَم يظلِمهُ الذي أوجدَه وسهّلَ لهُ كُلَّ الطّرقِ التي توصلُه إلى الجنّةِ.