ممكن الرد على قانون السببيه وقانون النظم لديفد هيوم ؟

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قامَت فلسفةُ هيوم على عدمِ الثّقةِ في التّأمّلِ الفلسفيّ، حيثُ حصرَ المعرفةَ الإنسانيّةَ في الخبرةِ والتّجربةِ الحياتيّةِ بعيداً عَن أيّ إسقاطاتٍ عقليّةٍ، فالمعرفةُ عندَه حسّيّةٌ تجريبيّةٌ والذّهنُ ليسَ إلّا لوحةً بيضاءَ ترتسمُ فيها الأحاسيسُ والإنطباعاتُ مِن غيرِ أيّ سُلطةٍ عقليّةٍ مُسبقةٍ، وعليهِ لا وجودَ لأحكامٍ عقليّةٍ أوّليّةٍ تُمكّنُ العقلَ مِن إبداء الرّأيّ أو الحُكمِ المُسبقِ على الأشياءِ، ومِن هذا البُعدِ إنتقدَ هيوم العلاقةَ الضّروريّةَ بينَ السّببِ والمُسبّبِ، والتي تسالمَت عليها الفلسفةُ الإنسانيّةُ وجعلَتها مِن ضروراتِ المعرفةِ. 

 والسّببيّةُ تعني العلاقةَ بينَ السّبب والمُسبِّبِ، أي أنَّ لكُلِّ ظاهرةٍ سبباً يكمُنُ خلفَها، وهيَ مِن مبادئِ العقلِ الأساسيّةِ والتي يُفسّرُ بموجبِها كلّ الظّواهرِ الكونيّةِ، ولِذا تُعدُّ لفظةُ السّببيّةِ مِن أكثرِ الألفاظِ شيوعًا في حياتِنا ليسَ في مجالِ العلمِ والتّجربةِ فحَسب وإنّما في عُمقِ كُلِّ الأفكارِ البشريّةِ، ومن دونِها لا يكونُ هُناكَ مُبرّرٌ لتفسيرِ مُجرياتِ الأحداثِ اليوميّةِ، ولِذا يُمثّلُ قانونُ السّببيّةِ دافِعاً وجوديّاً للاستمرار في الحياة ودافعاً معرفيّاً للسّعي لمعرفةِ ما يدورُ حولَنا. 

ولكَي نفهمَ تشكيكاتِ هيوم في بداهةِ مبدأِ السّببيّةِ أو العلّيّة لابُدَّ مِن بيانِ ثلاثة عناصرَ تُشكّلُ هذا المبدأَ وهيَ، الأسبقيّةُ، والإتّصالُ، والضّرورةُ، ويُقصدُ مِنها أنَّ السّببَ سابقٌ للمُسبّبِ ومُتّصلٌ بهِ والعلاقةُ بينَهما ضرورةٌ، والذي يحكمُ العلاقةَ بينَ هذهِ العناصرِ الثّلاثِ هوَ مبدأُ الضّرورةِ، فالأسبقيّةُ والإتّصالُ ليسَت كافيةً لتحقيقِ علاقةٍ بينَ السّببِ والمُسبّبِ، وإنّما لابُدَّ مِن وجودِ رابطٍ منطقيٍّ تتحقّقُ منهُ النّتيجةُ، وهذا هوَ أساسُ مبدأِ السّببيّةِ والعِلّيّةِ، فالعلاقةُ بينَ النّارِ والإحراقِ علاقةُ إضطرارٍ إي أنَّ النّارَ موجبةٌ حتماً للإحراقِ، وهذا ما يُشكّكُ هيوم في إمكانيّةِ إثباتِه، فبحسبِ فلسفةِ هيوم الحِسّيّةِ والرّافضةِ لكُلِّ أحكامٍ عقليّةٍ أوّليّةٍ لا يمكنُ إثباتُ هذهِ الضّرورةِ بينَ السّببِ والمُسبِّب، فالمعرفةُ عندَه خبرةٌ بشريّةٌ قائمةٌ على التّجاربِ الحياتيّةِ، وعليهِ إعتادَ النّاسُ على مُلاحظةِ الإقترانِ بينَ السّببِ والمُسبّبِ، وهيَ ليسَت إلّا مُجرّدَ تتابعٍ وتكرارٍ للإنطباعاتِ والأفكارِ التي وقعَت في الماضي، ومِن هُنا إعتبرَ أنَّ هذهِ الضّرورةَ ليسَت منطقيّةً وإنّما هيَ مُجرّدُ إنطباعٍ تجريبيّ فحسب. وإنَّ ما يحدثُ في الطّبيعةِ مِن أحداثٍ تبدو مُنفصلةً ومُتتابعةً، فتحليلُ الإحراقِ لا يتضمّنُ عُنصرَ النّارِ، وتحليلُ معنى النّارِ لا يتضمّنُ الإحراقَ، ويذهبُ هيوم في تحليلِه لقضيّةِ السّببيّةِ في كتابِه تحقيقٌ في الذّهنِ البشريّ إلى التّشكيكِ في علميّاتِ الذّهنِ مُنطلِقاً في ذلكَ مِن حالةِ الإنسانِ الأوّلِ، ونظرتِه للشّمسِ، وتلكَ الحيرةُ التي تنتابُه حولَ إمكانيّةِ شروقِها مرّةً أُخرى أم لا؟ وهوَ في هذهِ الحالةِ لا يمتلكُ دليلاً عقليّاً على ذلكَ، وكلُّ ما يملكُه يقتصرُ على العادةِ والتّكرارِ وبالتّالي التّجربةُ الحياتيّةُ، وعليهِ المسألةُ عندَه لا ترتبطُ بالضّرورةِ العقليّةِ وإنّما تعودُ للعادةِ والتّكرارِ النّابعينِ منَ التّجربةِ، ولا يمكنُ للعقلِ بعيداً عَن هذهِ التّجربةِ أن يكوّنَ أيَّ إستنتاجٍ مُسبقٍ؛ لأنَّ الظّواهرَ السّببيّةَ عندَه تعودُ إلى العادةِ والتّكرارِ النّابعينِ مِن صميمِ الحواسِّ لا المنطقِ العقليّ. 

ومُعالجةُ هذهِ المسألةِ تعودُ إلى مُعالجةِ نظريّةِ المعرفةِ بشكلٍ عام، والمُناقشة مِن جديدٍ حولَ مبدأِ المعرفةِ الإنسانيّةِ هَل هوَ الحسُّ أم العقلُ أم كلاهما، وغيرُ ذلكَ من البُحوثِ المُثارةِ في محلّها، ولا يسعُنا الخوضَ فيها هُنا.  

وقَد أثيرَ هذا البحثُ في علمِ الكلامِ الإسلاميّ في ما يخصُّ العلاقةَ بينَ السّببِ والمُسبّبِ وهَل هيَ ذاتيّةٌ نابعةٌ مِن طبيعةِ الأشياءِ أم هيَ خاضعةٌ للجعلِ الإلهي، وقد اِنحازَ المُتكلّمونَ الّذينَ اعتمدوا على الفلسفةِ المشّائيّةِ على الذّاتيّةِ بينَما إختارَ الأشاعرةُ الجعلَ الإلهيَّ للأسبابِ، وبعيداً عَن ترجيحِ أحدِ الخيارينِ يُسلّمُ الجميعُ بوجودِ علاقةٍ ضروريّةٍ بينَ السّببِ والمُسبّبِ سواءٌ كانَ ذلكَ مِن طبائعِ الأشياءِ أم بالجعلِ الإلهيّ، وهذا خلافُ ما ذهبَ إليهِ هيوم بفلسفتِه الحسّيّةِ التّجريبيّةِ، وإذا فحصنا موقفَ هيوم منَ السّببيّة سنجدُ أنّهُ أقربُ إلى السّفسطةِ والمُغالطةِ؛ لأنَّ التّشكيكَ في السّببيّةِ ليسَ تشكيكاً في المعرفةِ الإنسانيّةِ فحَسب وإنّما تشكيكٌ في نظامِ الكونِ الذي سيُفضي حتمًا إلى إعدامِه، فعدمُ القُدرةِ على تفسيرِ الكونِ وإدراكِه مساوٍ إلى عدمِ الإعترافِ بوجودِه، فالضّرورةُ التي لا يمكنُ التّشكيكُ فيها هيَ وجودُ الكونِ ووجودُ التّرابطِ السّببيّ القائمِ بينَ أجزائِه، وقَد أدّى رفضُ هيوم للتّرابطِ الضّروريّ بينَ السّببِ والنّتيجةِ، وإرجاعِ العلاقةِ القائمةِ بينَهما إلى العادةِ والتّكرارِ، إلى الوقوعِ في العديدِ منَ الأخطاءِ المنهجيّةِ التي جعلَت منهُ موضوعًا للدّراسةِ والنّقدِ، باعتبارِه خروجاً عنِ النّسقِ الطّبيعيّ في التّفكيرِ بأسلوبٍ تعسُّفيّ تشكيكيّ ليسَ إلّا، وعليهِ يفتقرُ هذا التّصوّرُ إلى سندٍ منطقيّ ويتنافى معَ أساسيّاتِ البحثِ العلميّ السّليم.