مَن هوَ المُطالَبُ بالإثباتِ المؤمنُ أم المُلحد؟

مرتضى المالكي/: يقولُ الملحدونَ: كما يقولونَ أنَّ البيّنةَ على مَن اِدّعى، وبما أنَّ المؤمنينَ يدّعونَ وجودَ إلهٍ، إذَن فعليهِم أن يأتوا بالبيّنةِ على صحّةِ ما يقولونَ، وحيثُ إنَّ المُلحدينَ لم يدّعوا وجودَ إلهٍ، إذن فهُم في حلٍّ منَ الإتيانِ بأيّ بيّنةٍ لأنّهم لمَ يدّعوا وجودَه، إذَن فهُم المطالبونَ بالإثباتِ، أمّا المُلحدونَ فهُم ليسوا مُطالبينَ بإثباتِ وجودِ إلهٍ لأنّهم ببساطةٍ لم يدّعوا وجودَه، فمَن اِدّعى شيئاً فعليهِ أن يأتي بالحُجّةِ التي تُثبتُ وجودَه.

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يحتوي هذا الكلامُ على مُغالطةٍ إنطوَت على الكثيرِ، وقَد حاولَ الإلحادُ تضخيمَ هذهِ المُغالطةِ والتّرويجَ لها، حتّى أنَّ فيلسوفَ الإلحادِ الإنجليزيّ برتراند راسل حاولَ الإعتمادَ عليها في صياغةِ بُرهانٍ مفادُه: إنَّ وجودَ اللهِ عزَّ وجلَّ مُجرّدُ فرضٍ عقليٍّ لا يمكنُ إثباتُه ولا نفيُه، ومثّلَ لذلكَ بإبريقِ شايٍ صينيّ يسبحُ في مدارٍ فلكيٍّ دائريّ بينَ الأرضِ والمرّيخِ، فهذا إفتراضٌ لا يمكنُ إثباتُه، ولا نفيُه، وكذلكَ الإيمانُ باللهِ تعالى. وبذلكَ يصبحُ المؤمنُ هوَ المُطالبَ بالإثباتِ دونَ المُلحدِ. وقد ردّدَ هذا البُرهانَ عرّابُ الإلحادِ الجديد ريتشارد دوكنز، وسمّاها (طريقةَ عبئِ البُرهان)، واستبدلَ مثالَ إبريقِ الشّاي بوحشِ السّباغيتي الطّائر.

وهذا النّمطُ منَ التّفكيرِ غارقٌ في السّذاجةِ والسّطحيّةِ، فالإبريقُ العائمُ في الفضاءِ مُجرّدُ إفتراضٍ عبثيٍّ لا مُبرّرَ لافتراضِه منَ الأساسِ، وهذا بخلافِ الإيمانِ القائمِ على عشراتِ الشّواهدِ الكونيّةِ الدّالّةِ على وجودِ الخالقِ، وبالتّالي هُناكَ فرقٌ بينَ الإحتمالِ العقليّ القائمِ على مؤشّراتٍ عُقلائيّةٍ، وبينَ الإحتمالِ العبثيّ القائمِ على أوهامٍ وتخيُّلاتٍ، والحياةُ الإنسانيّةُ قائمةٌ بشكلٍ كبيرٍ على مُقاربةِ الإحتمالاتِ وتقييمِها قبلَ بناءِ المواقفِ، فمَن يحتملُ وجودَ مَن ينتظرُه على البابِ بعدَ سماعِ صوتِ الجرسِ سوفَ يذهبُ لفتحِ البابِ حتّى لو كانَ الطّارقُ شخصاً غيرَ الذي ينتظرُه، أمّا الذي يحتملُ وجودَ شخصٍ على البابِ من دون أيّ إشارةٍ أو علامةٍ تدلُّ على ذلكَ فلَن يتحرّكَ لفتحِ البابِ، وبالتّالي جعلُ الإيمانِ باللهِ مُجرّدَ فرضيّةٍ طارئةٍ في ذهنِ المُؤمنِ مُجرّدُ مُخادعةٍ، والذي يُمرّرُ هذهِ المُغالطةَ في ذهنِ البعضِ هوَ تصويرُ الخلافِ بينَ الإيمانِ والإلحادِ على أنّهُ خلافٌ بينَ إثباتٍ وإنكار، بينَما الخلافُ في حقيقتِه بينَ مقولتينِ بينَهُما حالةٌ منَ التّباينِ، معَ أنَّ كلاهما يتحدّثانِ عَن موضوعٍ واحدٍ وهوَ الإجابةُ على السّؤالِ (ما هو مصدرُ الوجودِ والأشياء؟)، ومنَ الواضحِ أنَّ هذا الإختلافَ يأتي بعدَ إتّفاقِ الطّرفينِ على أنَّ الأشياءَ حقائقُ واقعيّةٌ وليسَت وهماً وخُرافةً، فجاءَت إجابةُ المُؤمنِ على أنَّ هُناكَ إلهاً قادراً غنيّاً بذاتِه هوَ الذي خلقَ الوجودَ والأشياء؟ وفي قبالِ ذلكَ تأتي مقولةُ المُلحدِ التي تقولُ: إنَّ لا شيءَ خلقَ كُلَّ الأشياءِ، ومنَ الواضحِ أنَّ المُلحدَ هوَ المُطالَبَ بإثباتِ مقولتِه؛ لأنَّ مقولةَ أنَّ هناكَ شيءٌ أوجدَ بقُدرتِه الأشياءَ قابلةٌ للتّصديقِ، أمّا مقولةُ اللّا شيء مصدرٌ للأشياءِ لا يمكنُ تصديقُها إلّا إذا تمكّنَ مِن إقامةِ البُرهانِ عليها، ومِن هُنا يظلُّ المُلحدُ مُطالباً بإقامةِ البُرهانِ على مقولتِه.

ومنَ الواضحِ أنَّ المُلحدَ يحاولُ أن يُصوّرَ الإيمانَ كحالةٍ طارئةٍ على الحياةِ، وهذا ما لا يساعدُ عليه الواقعُ ولا تدعمُه الدّراساتُ التّاريخيّةُ، فالدّينُ والإيمانُ باللهِ حالةٌ راسخةٌ في الوجودِ الإنسانيّ، يقولُ عبدُ اللهِ الشّهريّ: "لأنَّ الإلحادَ حالةٌ إدراكيّةٌ لَم تتمتَّع بأيّ رسوخٍ نوعيٍّ في الوعي الجمعيّ الإنسانيّ؛ فهيَ حالةٌ تعاودُ الظّهورَ كزعانفِ سمكِ القرشِ وسطَ بحرِ الدّينِ الهادرِ. دعونا نستفتي الواقعَ، فنسألَ: لو كُنّا حقًّاً أبناءَ الطّبيعةِ الخُلَّصِ، وأحفادَ الكونِ الشّرعيّينَ، المُنحدرينَ مِن صُلبِه، هَل كانَ سيفتقرُ خيارُ الإلحادُ إلى مكابدةٍ أم كانَ سيكونُ فطرةً؟ وهَل كُنّا سنجدُ في طردِ فكرةِ الإيمانِ أدنى عناءٍ أم كانَ سيكونُ سليقةً؟"[1]. وعليهِ فإنَّ الإلحادَ ليسَ لهُ وجودٌ في التّاريخِ الإنسانيّ؛ لأنّهُ يتحرّكُ في الإتّجاهِ المُعاكسِ لطبيعةِ الإنسانِ وفطرتِه، بعكسِ الإيمانِ الذي وُجدَ بوجودِ الإنسان، ومَن يُشكِّك في هذا المسارِ الإنسانيّ ويقترحُ بديلاً آخرَ عليه إثباتُ ذلك.

أمّا القاعدةُ الفقهيّةُ "البيّنةُ على مَن اِدّعى واليمينُ على مَن أنكرَ"، فغيرُ مُناسبةٍ في مقامِ التّبايُناتِ الفكريّةِ؛ لأنَّ نفيَ الأفكارِ لا يكونُ عبطاً وإنّما يحتاجُ إلى بيّنةٍ أيضاً، فمثلاً لو اِختلفَ عالمانِ حولَ مسؤوليّةِ فيروسٍ عَن مرضٍ مُعيّنٍ وكانَ أحدُهما يُثبِت والثّاني ينفي، فإنَّ النّتيجةَ السّلبيّةَ لا تُعفي صاحبَها عنِ الإثبات.

[1] - ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، عبد الله بن سعيد الشهري، مركز نما للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى بيروت 2014، ص 14