لا تأخُذوا الإسْلامَ بالسُّفهاءِ مِن خَوارجِ العَصرِ.

:

     يُحاوِلُ البَعضُ للأسفِ أنْ يأخذَ الإسْلامَ بجَرِيرةِ بَعضِ السُّفهاءِ مِن أبنَائِه ممَّن يَدَّعُونَ الإنتِماءَ إليْه، وهم بَعيدُونَ كلَّ البُعدِ عن تَعالِيمِه وأحكَامِه.

     لقد ظَهرَ الخَوارِجُ في القَرنِ الأولِ منَ الإسْلامِ وخَالفُوا تَعالِيمَ الإسْلامِ وأحكَامَه حينَ أقبلُوا يُكفِّرُونَ المُسلِمينَ ويَقتلُونَهم بغَيرِ حقٍ، فَقَالُوا بكُفرِ عليٍّ (عليه السلام) وصَحابةِ رسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعَمدُوا إلى مُقاتَلتِهم وقَتلِ المُسلِمينَ بعدَ أنْ طَبقُوا الآياتِ النَّازِلةَ في المُشرِكينَ على المُسلِمينَ.

     جاءَ في البُخارِي عن ابنِ عُمرَ في الخَوارجِ قَولُه: "انْطلَقُوا إلى آياتٍ نَزلتْ في الكُفَّارِ فجَعلُوها في المُؤمِنينَ" [صَحِيح البُخارِي ج8  ص51].

     ولم يَكتفِ الخَوارجُ بتَكفِيرِ كِبَارِ الصَّحابةِ ومُقاتَلتِهم بل ذَهبُوا إلى تَكفيرِ مُرتَكبِ الكَبِيرةِ أيضاً، ومِن هنا كانَ عندَهم المُسلمُ الَّذي شَرِبَ الخَمرَ أو سَرقَ أو زَنى كَافراً، ولَازمُ قَولُهم هذا أمرَانِ لا يَلتزِمُ بهِما أحدٌ منَ المُسلِمينَ:

     الأول: يَجبُ قتلُ الشَّاربِ للخَمرِ والسَّارقِ والزَّانِي؛ لأنَّه كُفرٌ بعدَ إيمَانٍ، فيَكُونُ حُكمُهم حُكمُ المُرتدِّينَ الَّذين يَجبُ قَتلُهم، لمَا ثَبتَ عن رسُولِ اللهِ (ص) قَولُه: (مَن بدَّلَ دينَهُ فاقتُلوهُ). [رَواه البُخارِي وغَيرُه].

     الثَّاني: تَعطِيلُ الحُدودِ في حقِّ شَاربِ الخَمرِ والسَّارقِ والزَّانِي.

     وكِلا الأمرَينِ لا يَقُول بهِما أحدٌ منَ المُسلِمينَ، وحتى المُعتزِلةِ الَّذين تَوقَّفُوا في حُكمِ مُرتَكبِ الكَبِيرةِ بأنَّه كَافرٌ أو لا، لم يَقُولُوا بارْتِدادِه أو تَعطِيلِ الأحكَامِ الوَارِدةِ في حقِّه.

     وعلى مِنوَالِ هؤلاءِ المُنحرِفينَ عن الإسْلامِ وأحكَامِه ظَهرَ لنا خَوارجُ العَصرِ الَّذين حَملُوا الآياتِ الوَارِدةَ في المُشرِكينَ على أهلِ الإسْلامِ فَقَالُوا بكُفرِ وشِركِ مَن يَتوسَّلُ بالأنبِياءِ والصَّالِحينَ أو يَزورُونَ قُبورَهم، فكَفَّرُوا طَائِفةً عَظِيمةً منَ المُسلِمينَ (سنَّةً وشِيعةً) وأصدَرُوا الفَتاوَى بلُزُومِ قَتلِهم وإبادَتِهم، ولم يَكتفُوا بذلِك حتى أعلَنُوا الحَربَ على كلِّ مَن لا يَعتقِدُ بعَقِيدتِهم ويَدِينُ بأفكَارِهم، فَصارَ العَالَمُ كلُّه كَافراً عندَهم وأنَّه يَجبُ قَتلُ النَّاسِ أجمَعينِ، والحَالُ أنَّ هذا مُخالِفٌ للإسْلامِ رُوحاً ونُصُوصاً، وإليْك البَيانُ (فيما يَتعلَّقُ بالجِهادِ ومُقاتَلةِ الكَافِرينَ):

     قد يَتصوَّرُ البَعضُ أنَّ الإسْلامَ يأمرُ بمُقاتَلةِ مُطلَقِ الكَافِرينَ، مُحارِبينَ وغَيرِهم، وهذا جَهلٌ فَظِيعٌ بالدِّينِ وأحكَامِه، فمِثلُ قَولِه تعالى الوَاردِ في سُورةِ التَّوبةِ، الآيةُ 29: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، لا يُحمَلُ على إطلَاقِه، بل لا بدَّ مِن مُلاحَظةِ المُقيِّداتِ له في القُرآنِ نَفسِه، فمِن طَبِيعةِ الشَّرِيعةِ أنَّه يَردُ فيْها اللِّسانُ المُطلَقُ ثم يَردُ التَّقيِيدُ ، أو يَردُ العامُّ ثم يأتِي المُخصِّصُ، أو يَردُ المُجمَلُ ثم يأتِي المُبيِّنُ، أو يَردُ المُتشَابهُ ثم يأتِي المُحكَمُ، وهذِه عُلومٌ قُرآنِيةٌ يَنبغِي على كلِّ مُستَنبطٍ للأحكَامِ منَ القُرآنِ الكَريمِ الإحَاطةُ بها وسَبرُ مَفاهِيمِها حتى يُحِيطَ بالقُرآنِ الكَريمِ وآياتِه بِشكْلٍ جَيدٍ ولا يَحقُّ له الإجتِزاءُ بآياتٍ دُونَ أُخرَى، فقد عَابَ القُرآنُ الكَريمُ الَّذين يَقتطِعُونَ مَقاطِعَ أو أجزَاءً منَ القُرآنِ دُونَ بَعضٍ يُريدُونَ أخذَ الأحكامِ منْها.

     قَال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ} الحجر: 91، والمُرادُ بـ (عِضِين) أي جَعلُوه أجزَاءً وأعضَاءً فآمنُوا ببَعضٍ وكَفرُوا ببَعضٍ.

     ومِن هنا نَقُول: عندَ العَودةِ إلى بَقيَّةِ الآياتِ في القُرآنِ الكَريمِ تَجدُ أنَّ اللهَ سُبحانَه قد شرَّعَ القِتالَ في حَالةِ الدِّفاعِ فقط وليس مُطلَقاً، وصِناعةُ الإطلَاقِ والتَّقيِيدِ تَقْتضِي حَملَ مُطلَقاتِ القُرآنِ على مُقيَّداتِه. فَانظُر معَنا إلى هذِه الآياتِ الكَرِيمةِ:

    1- يَقُول تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة: 190.

      فهُنا في هذِه الآيةِ تَجدُ بَياناً صَرِيحاً جداً بأنَّ مَشرُوعِيةَ القِتالِ هي لمَن يُقاتِلُك ويُرِيدُ الإعتِداءَ عليْك لا مُطلقاً، وفي شَطرِها الثَّاني (ولا تَعتدُوا) تَجدُ ظُهُوراً مُعتدّاً به في النَّهيِ عن مُقاتَلةِ مَن لا يُقاتِلُك واعْتبِرْه اعْتِداءً مُحرَّماً.

    2- يَقُول تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الحج: 39.

     وهنا أيضاً الآيةُ صَرِيحةٌ جداً في أنَّ الإذْنَ بالقِتالِ هو لحَالةِ المَظلُومِيةِ وأذيَّةِ الطَّرفِ المُقابلِ لا مُطلقاً، وعندَما تُراجِعُ تَفاسِيرَ المُسلِمينَ تَجدُ أنَّ أصحَابَ رسُولِ اللهِ (ص) طَلبُوا الإذْنَ بالقِتالِ لما رَأوه مِن أذى قُريشٍ وعُدوَانِها.

    3- يَقُول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة: 8.

     وهذِه الآيةُ صَرِيحةٌ جداً في مُعامَلةِ غَيرِ المُحارِبينَ للمُسلِمينَ بالحُسنى والجِوَارِ الطَّيِّبِ، بل يُوجدُ الحثُّ الصَّرِيحُ على ذلك.

     4- يَقُول تعالى: (لا إكرَاهَ في الدِّينِ) البقرة:256.

     وهذِه الآيةُ الكَرِيمةُ تَنسِفُ دَعاوَى كلِّ مَن يَقُول بأنَّ الإسْلامَ يَدعُو لقَتلِ النَّاسِ وإدخَالِهم في الدِّينِ مُرغَمِينَ.

     ومِن مُجمَلِ ما تَقدَّمَ نُخرِجُ بنَتِيجةٍ وَاضِحةٍ أنَّ الآيةَ (29) مِن سُورةِ التَّوبةِ هي لَيستْ على إطلَاقِها، بل مُقيَّدةٌ بحَالةِ الدِّفاعِ عن المَظلُومِيةِ ودَفعِ خَطرِ المُعتَدِينَ، كما أوضَحتْه الآياتُ الصَّرِيحةُ المُتقدِّمةُ. 

     وهذا هو الثَّابتُ مِن سِيرَةِ رسُولِ اللهِ (ص) في كلِّ حُرُوبِه وغَزوَاتِه؛ إذ لم تَثبُتْ عليْه حَربٌ وَاحِدةٌ خَاضَها ضدَّ أناسٍ آمنِينَ لم يُحارِبُوه أو يُحاوِلُوا الإعتِداءَ عليْه، فالإسْلامُ دِينُ مَحبةٍ وأخاءٍ ورَحمةٍ، ودِينُ عَطاءٍ ومُواسَاةٍ وصِلةِ أرحَامِ، وليس دِينَ كَراهِيةٍ وقَتلٍ ودَمارٍ وذَبحٍ وتَشرِيدٍ.. فهَذا الَّذي تَرَونَه مِن هؤلاءِ المَارِقينَ والخَارِجينَ عن الإسْلامِ مُخالِفٌ لتَعالِيمِ القُرآنِ الكَريمِ، ومُخالِفٌ لسِيرَةِ النَّبيِّ الأعظمِ (ص)، بل مُخالِفٌ لفَتاوَى عُلمَائِهم الكِبَارِ الَّذين يَدينُونَ بالوَلاءِ لهم.

     فها هو ابنُ تَيمِيةَ يَقُول في مَطلعِ رِسالَتِه "قَاعِدة في قِتالِ الكُفَّار ومُهادَنَتِهم وتَحرِيمِ قَتلِهم لمُجرَّدِ كُفرِهم" ما نصُّه: «الدَّليلُ على تَحرِيمِ قِتالِ مَن لم يُقاتِلْ منَ الكُفَّارِ، قَولُه تعالى: (قَاتِلُوا في سَبيلِ اللهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَكم) تَعلِيقٌ للحُكمِ بكَونِهم يُقاتِلُونَنا، فدلَّ على أنَّ الأمرَ مُعللٌ بالقِتالِ، وليس لكُفرِهم.. (ولا تَعتدُوا) والعُدوَانُ مُجاوَزةُ الحدِّ، فدلَّ على أنَّ قِتالَ مَن لم يُقاتِلْنا عُدوَانٌ».

     ويُؤكِّدُ ابنُ تَيمِيةَ في رِسالَتِه هذِه بأنَّ مَسألةَ مُقاتَلةِ كلِّ الكُفَّارِ مِن أجلِ أنْ يَدخُلوا في الإسْلامِ أمرٌ غَيرُ مُتصوَّرٍ، ويُخالِفُ النصَّ والإجمَاعَ، قَال: «فإنَّ هذا لم يَفعلْه رسُولُ اللهِ قط، بل كَانتْ سِيرَتُه أنَّ مَن سَالَمَه لم يُقاتِلْه.. واللهُ يَقُول (لا إكرَاهَ في الدِّينِ) وهذا نصٌّ عامٌّ، ألَّا نَكرهَ أحداً على الدِّينِ، فلو كانَ الكَافرُ يُقاتَلُ حتى يُسلِمُ، لكانَ هذا أعظمُ الإكرَاهِ على الدِّينِ». انتَهى.

     وعليْه، لا يَستَغرِبنَّ أحدٌ حينَ يَجدُ في صِحاحِ المُسلِمينَ - وهذا مِن مَعاجزِ النَّبيِّ (ص) لأنَّه إخبارٌ بغَيبٍ - حَديثاً للنَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُشِيرُ فيه إلى هؤلاءِ العَابِثينَ بالشَّرِيعةِ ويُحذِّرُ النَّاسَ منْهم.

     أخرجَ البُخارِيُّ ومُسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ قَال: قَال رسُول اللهِ (ص): (يَخرجُ آخرَ الزَّمانِ قَومٌ أحداثُ الأسنَانِ، سُفهَاءُ الأحلَامِ، يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيهِم، يَقُولونَ مِن قَولِ خَيرِ البَريَّةِ، يَمرُقونَ منَ الدِّينِ كما يَمرقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّة). انتَهى.

     ومِن هنا نَقُول لجَميعِ المُنتقِدينَ لحَالةِ الشُّذوذِ التي يَمتازُ بها هؤلاءِ عن المُسلِمينَ أنْ لا تأخُذوا الإسْلامَ بجَرِيرةِ هؤلاءِ وشُذوذِهم وانْحرَافِهم عن الإسْلامِ، ولا تُحاكِمُوا المُسلِمينَ بجَماعةٍ مَارِقةٍ عنه، فهَذا ليس منَ الإنصافِ في شَيءٍ، وليس منَ المَوضُوعيةِ بشَيءٍ، فالعَقلُ والشَّرعُ يَقُول: (ولا تَزرُ وَازِرةٌ وِزرَ أُخرَى).

     وآخرُ دَعوَانا أن الحَمدُ لِلهِ ربِّ العَالمِينَ.