هَلْ مَقاماتُ أهْلِ البَيْتِ (ع) اخْتِيارِيَّةٌ أمْ وَهْبِيَّةٌ؟

صباح حسن: هَلْ خلقَ اللهُ مُحَمَّداً وآلَهُ أفضلَ مِنَ البَشَرِ، أمْ إنَّهمْ همُ الذينَ ارتقوا إلى هذِهِ المَنْزِلةِ حتّى أصبحُوا أفْضَلَ البَشَرِ؟ إذا اللهُ خلقَهُمْ مِنَ البَدْءِ أفضلَ منَ البَشَرِ، وخلقَ البَشَرِ منْ أجْلِهِمْ، إذَنْ لِماذا يُعِذِّبُ اللهُ النّاسَ وهوَ خلقَهُمْ خَطّائِينَ؟

: اللجنة العلمية

الأخُ صباح المُحترَمُ، السَّلامُ عَليكُمْ ورَحمَةُ اللهِ وبَركاتُهُ

لا شَكَّ أنَّ المَقاماتِ التي أُعْطِيَتْ للنَّبيِّ (ص) وأهلِ بيتِهِ (ع) أُعْطِيَتْ على طِبْقِ نِظامٍ وقانونٍ، وليسَتْ بدونِ ضَوابِطَ.

فهذِهِ المقاماتُ أُعْطِيَتْ لهمْ مِنِ ابتداءِ خِلْقَتِهِمْ، وذلكَ:

لِعِلْمِ اللهِ تعالى بأنَّهمْ سيَكونونَ السَّبّاقِينَ في الاستجابَةِ لِنِدائِهِ، والذّائِبِينَ في طاعَتِهِ والخُضُوعِ لهُ، والنّاجِحِينَ في أعظمِ الامتحاناتِ الإلهيَّةِ. ولِعِلْمِهِ تعالى بأنَّهمْ سيتحمَّلونَ أشدَّ البلايا والمصائِبِ، وأعظمَ الأذِيَّةِ في جَنْبِ اللهِ تعالى.

كانَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى يعلمُ بأنَّهُمْ سيكونُ لهمْ قدَمُ السَّبْقِ في جَمِيعِ ذلكَ في جَمِيعِ مَراحِلِ حَياتِهِمْ وخِلْقَتِهِمْ، فأعْطاهُمْ ما أعطاهُمْ بعدَ أنْ شَرَطَ عليْهِمْ شُرُوطاً فقبِلوا بِها، وكانَ اللهُ تعالى يعلمُ منْهُمْ الوَفاءَ.

ولِذا أدْخَلَهُمُ اللهُ في أصْعَبِ الامتحاناتِ فخرجُوا منْها سالِمِينَ غانِمِينَ، نظيفةً أذيالُهُمْ لمْ تُدَنِّسْهُمُ البلايا والمصائِبُ والمِحَنُ، ولمْ يتزلزلوا في شيءٍ مِنَ الفِتَنِ، ولمْ يتلكَّؤوا ويتوقَّفوا ويتأمَّلوا لحظةً واحِدَةً في الاستجابَةِ لِنِداءِ اللهِ في جَمِيعِ عَوالِمِ خِلْقَتِهِمْ.

فالعَطاءُ بِالنِّسْبَةِ إليْهِمْ قبلَ العَمَلِ.

وَرَدَ في دُعاءِ النّدبَةِ الشَّرِيفَةِ عَنِ الحُجَّةِ - عَجَّلَ اللهُ فَرَجَهُ -: (اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤُكَ في أوْلِيائِكَ، الذين اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفسِكَ وَدِينِكَ، إذِ اخْتَرْتَ لهُمْ جَزِيلَ ما عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ، الذي لا زَوالَ لهُ وَلا اضْمِحْلالَ، بَعْدَ أنْ شَرَطْتَ عليْهِمُ الزُّهْدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ، وزُخْرُفِها وزِبْرِجِها، فشَرَطُوا لكَ ذلكَ، وعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ، فقبِلْتَهُمْ وقرَّبْتَهُمْ، وقدَّرْتَ لهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ، والثَّناءَ الجَلِيَّ، وأهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكتَكَ، وكرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إليْكَ، وَالوَسِيلَةَ إلى رِضْوانِكَ). [الإقبالُ لابنِ طاووسٍ ج1 ص 504، بحارُ الأنوارِ ج99 ص104]

إذَنْ: فاللهُ تعالى كانَ يعلمُ بأنَّ هؤلاءِ صفوةُ خلقِهِ لِخُصُوصِيَّةٍ في ذَواتِهِمْ، فاختارَهُمْ، ثمَّ اشترَطَ عليْهِمُ الطّاعَةَ والزُّهْدَ في الدُّنيا في جَمِيعِ مَراحِلِ حَياتِهِمْ، فقبِلوا الشَّرْطَ، وكانَ اللهُ تعالى يعلمُ منْهُمُ الوَفاءَ، فأعْطاهُمْ هذِهِ المَقاماتِ مِنِ ابتداءِ حَياتِهِمْ، ثمَّ غَمَسَهُمْ في بَحْرِ الامْتِحاناتِ وَالبَلايا، فأطاعُوهُ وصَبَرُوا في جَنْبِهِ.

وَهَذِهِ الامْتِحاناتُ بعضُها حَصَلَ في عَوالِمَ ونَشْآتٍ سابقةٍ لهذا العالَمِ كعالَمِ الذَّرِّ، وبعضُها في عالَمِ الدُّنيا.

إذِنْ: يمكنُنا القولُ بأنَّ اللهَ خلقَهُمْ أفضلَ البَشَرِ، وبعدَ الامْتِحاناتِ التي دَخَلوا فيها في مَراحِلَ مُتَأخِّرَةٍ عنْ أصلِ وجودِهِمْ، أثبتُوا بِجَدارَةٍ عاليَةٍ أنَّهمْ أفضلُ البَشَرِ على الإطلاقِ. 

وَعَليْهِ: فمَقاماتُهُمُ اخْتِيارِيَّةٌ ووَهْبِيَّةٌ معاً.

وأمّا بالنِّسْبَةِ إلى السُّؤالِ الثّاني: فبقيَّةُ البَشَرِ لمْ يخلقْهُمُ اللهُ وصُدُورُ الخَطايا مِنْ ذاتيّاتِهِمُ التي لا تنفكُّ عنْهُمْ، إذِ الخَطايا تصدُرُ منَ الإنسانِ بإرادَتِهِ واخْتِيارِهِ، وليستْ جَبْراً وقهْراً منَ اللهِ تعالى، ولكنْ مَعَ ذلك إذا مارَسُوا الخَطايا بِاخْتِيارِهِمْ فقدْ فتَحَ لهُمْ بابَ التَّوْبَةِ والرُّجُوعِ إليْهِ تعالى.

ودُمتُم سالِمين.