هَلِ الوُجُودُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ؟

هُنَاكَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ وُجُودَ اللهِ كَوُجُودِ الإِنْسَانِ، وَهِيَ مُغَالَطَةٌ وَاضِحَةٌ بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَلَكِنْ لاَبُدَّ مِنْ مُجَابَهَةِ هَذَا الإِدِّعَاءِ بِجَوَابٍ عِلْمِيٍّ وَاضِحٍ وَمُقْنِعٍ؟

: اللجنة العلمية

     لَا شَكَّ عِنْدَنَا التَّغَايُرُ التَّامُّ وَعَدَمُ السِّنْخِيَّةِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، بَلْ هُنَاكَ بَيْنُونَةُ صِفَةٍ لَا بَيْنُونَةُ عُزْلَةٍ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ، وَهَذَا يَعْنِي عَدَمَ الإِشْتِرَاكِ المَعْنَوِيِّ بَيْنَ صِفَاتِ الخَالِقِ وَصِفَاتِ المَخْلُوقِ.  

     إِلَّا أَنَّ الإِشْكَالَ يَقُومُ عَلَى وُجُودِ صِفَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، حَيْثُ يَتَّصِفُ الخَالِقُ بِالوُجُودِ، وَالعِلْمِ، وَالقُدْرَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالبَصَرِ، وَالحَيَاةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الإِنْسَانُ أَيْضًا، وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ لَا نَجِدُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً لِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِي مَرْتَبَةِ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ; بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَحْمِلُ مَعْنًى وَدِلَالَةَ مَفْهُومِيَّةٍ وَاحِدَةً سَوَاءٌ أُطْلِقَتْ عَلَى الخَالِقِ أَمْ عَلَى المَخْلُوقِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي مَقَامِ المَفْهُومِ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنَّهَا تَتَعَدَّدُ وَتَتَغَايَرُ فِي مَقَامِ المِصْدَاقِ. السُّؤَالُ الإِشْكَالِيُّ هُوَ: هَلِ الفَرْقُ فِي مَقَامِ المِصْدَاقِ كَافٍ لِإِثْبَاتِ بَيْنُونَةٍ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ لَا; كَيْفَ يُمْكِنُنَا حَلُّ هَذِهِ المُشْكِلَةِ؟

     اكْتَفَى الفَلَاسِفَةُ الإِسْلَامِيُّونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ مُتَكَلِّمِينَ بِالتَّبَايُنِ فِي مَقَامِ المِصْدَاقِ، وَاعْتَرَفُوا بِوُجُودِ مُشْتَرَكٍ مَعْنَوِيٍّ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالبَدَاهَةِ وَالوِجْدَانِ، وَلِذَا يَنْقُلُ العَلَّامَةُ الطَّبَاطَبَائِيُّ عَنْ صَدْرِ المُتَأَلِّهِينَ قَوْلَهُ: (إِنَّ كَوْنَ الوُجُودِ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا قَرِيبٌ مِنَ الأَوَّلِيَّاتِ)(1)، أَيْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَيُؤَكِّدُ العَلَّامَةُ الطَّبَاطَبَائِيُّ فِي نِهَايَةِ الحِكْمَةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَمِنْ سَخِيفِ القَوْلِ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الوُجُودَ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ فِي كُلِّ مَاهِيَّةٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا هُوَ بِمَعْنَى تِلْكَ المَاهِيَّةِ... وَيَرُدُّهُ لُزُومُ سُقُوطِ الفَائِدَةِ فِي الهَلِيَّاتِ البَسِيطَةِ مُطْلَقًا، كَقَوْلِنَا: الوَاجِبُ مَوْجُودٌ، وَالمُمْكِنُ مَوْجُودٌ، وَالجَوْهَرُ مَوْجُودٌ..)(2). وَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّ عُمْدَةَ هَذَا الإِسْتِدْلَالِ هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ المَاهِيَّةِ وَبَيْنَ الوُجُودِ، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِتَحْقِيقِ الحَمْلِ عَلَى القَضِيَّةِ، مِثْلِ قَوْلِنَا: "الإِنْسَانُ مَوْجُودٌ"، فَإِنْ كَانَ الوُجُودُ هُوَ ذَاتَهُ المَاهِيَّةَ، لَكَانَ قَوْلُنَا: (الإِنْسَانُ مَوْجُودٌ) مُسَاوِيًا لِقَوْلِنَا: (الإِنْسَانُ إِنْسَانٌ) أَوْ (الوُجُودُ وُجُودٌ)، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الهَلِيَّاتِ البَسِيطَةِ كَمَا عَبَّرَ العَلَّامَةُ، فَيُقَالُ :هَلِ الإِنْسَانُ مَوْجُودٌ؟ وَلَا يُقَالُ: هَلِ الإِنْسَانُ إِنْسَانٌ؟ وَلَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِالحَمْلِ الأَوَّلِيِّ; لِأَنَّ حِينَهَا لَا يُصْبِحُ لِلإِنْسَانِ مَعْنًى مِنَ الأَسَاسِ، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ لَفْظٍ لَا يَحْمِلُ مَعْنًى.

     وَرَدَّ العَلَّامَةُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الوُجُودَ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ بِقَوْلِهِ: (وَنَظِيرُهُ فِي السَّخَافَةِ مَا نُسِبَ إِلَى بَعْضِهِمْ أَنَّ مَفْهُومَ الوُجُودِ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ. وَيَرُدُّ بِأَنَّا إِمَّا أَنْ نَقْصِدَ بِالوُجُودِ الَّذِي نَحْمِلُهُ عَلَى الوَاجِبِ مَعَنًى أَوْ لَا؟ وَالثَّانِي يُوجِبُ التَّعْطِيلَ، وَعَلَى الأَوَّلِ إِمَّا أَنْ نَعْنِيَ بِهِ المَعْنَى الَّذِي نَعْنِيهِ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى المُمْكِنَاتِ، وَإِمَّا أَنْ نَعْنِيَ بِهِ نَقِيضَهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ نَفْيُ الوُجُودِ عَنْهُ عِنْدَ إِثْبَاتِ الوُجُودِ لَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَعَلَى الأَوَّلِ يَثْبُتُ المَطْلُوبُ وَهُوَ كَوْنُ مَفْهُومِ الوُجُودِ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا)(3) ثُمَّ يُبِيِّنُ السَّيِّدُ الطَّبَاطَبَائِيُّ أَنَّ سَبَبَ الخَلْطِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذَا المَوْضُوعِ هُوَ الخَلْطُ بَيْنَ المِصْدَاقِ وَالمَفْهُومِ، وَحُكْمُ المُغَايَرَةِ مَطْلُوبٌ فِي مَقَامِ المِصْدَاقِ وَلَيْسَ المَفْهُومَ، يَقُولُ: (وَالحَقُّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أَنَّ القَوْلَ بِالإِشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ مِنَ الخَلْطِ بَيْنَ المَفْهُومِ وَالمِصْدَاقِ، فَحُكْمُ المُغَايَرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلمِصْدَاقِ دُونَ المَفْهُومِ).

     هَذَا عُمْدَةُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا البَابِ، وَلِمُنَاقَشَةِ هَذَا الأَمْرِ يَتَطَلَّبُ نِقَاشًا وَاسِعًا حَوْلَ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ وَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ العِلْمُ بِالأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِنْسَانِ، وَهُنَا يَتَّسِعُ الحَدِيثُ لِيَشْمُلَ الوُجُودَ الذِّهْنِيَّ كَيْفَ هُوَ وَمَا هِيَ شُرُوطُهُ وَإِحْكَامُهُ؟ وَهَذَا مَا لَا يُمْكِنُ فِي مَقَامِ الإِجَابَةِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَلَكِنْ بِشَكْلٍ مُخْتَصَرٍ نَضَعُ بَعْضَ المُلَاحَظَاتِ وَنَكْتَفِي بِالتَّطْبِيقِ فِي مَوْضُوعِ الوُجُودِ وَلَا نَتَحَدَّثُ عَنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ المُشْتَرَكَةِ.

     المُلَاحَظَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ العِلْمُ الحُصُولِيُّ بِالمَنْظُورِ الفَلْسَفِيِّ يَتَحَقَّقُ عَبْرَ المَفَاهِيمِ وَالصُّوَرِ، حِينَهَا لَا يَكُونُ لِلإِنْسَانِ عِلْمٌ بِالحَقَائِقِ الخَارِجِيَّةِ إِلَّا عَبْرَ الوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَهَذَا الوُجُودُ فِي التَّصَوُّرِ الفَلْسَفِيِّ مَرْتَبَةٌ لَطِيفَةٌ لِلوُجُودِ الخَارِجِيِّ، وَبِالتَّالِي المعْلُومُ بِالضَّرُورَةِ لِلإِنْسَانِ هُوَ الصُّوَرُ وَالمَفَاهِيمُ الذِّهْنِيَّةُ، أَمَّا المَعْلُومُ ِبِالتَّبَعِ هُوَ الوُجُودُ الخَارِجِيُّ، وَعَلَيْهِ لَا يَكُونُ المَوْجُودُ فِي الخَارِجِ مَعْلُومًا بِمَا هُوَ فِي ذَاتِهِ مُنْكَشِفٌ، وَإِنَّمَا مَعْلُومٌ لِأَنَّ صُوَرَهُ مُنْكَشِفَةٌ فِي مَرْتَبَةِ الوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الموْجُودَ فِي الخَارِجِ - بِمَا هُوَ مِصْدَاقٌ - مَجْهُولٌ تَمَامَ الجَهَالَةِ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِالإِحَالَةِ لَهُ عَبْرَ المَفَاهِيمِ الذِّهْنِيَّةِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ لَنَا عِلْمٌ خَاصٌّ بالمِصْدَاقِ إِلَّا نَفْسُ العِلْمِ الَّذِي أَدْرَكْنَاهُ فِي مَرْتَبَةِ المَفْهُومِ الذِّهْنِيِّ، وَحِينَهَا لَا يَكُونُ لِلوُجُودِ فِي مَرْتَبَةِ الذِّهْنِ مَعْنًى وَفِي مَرْتَبَةِ المِصْدَاقِ الخَارِجِيِّ مَعْنًى آخَرُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَفْهُومُ الوُجُودِ، وَإِذَا سَلَّمْنَا بِهَذَا وَكَانَ مَفْهُومُ الوُجُودِ فِي مَرْتَبَةِ الوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَالوُجُودُ فِي مَرْتَبَةِ المِصْدَاقِ الخَارِجِيِّ وَاحِدٌ، كَيْفَ جَازَ القَوْلُ إِنَّ الخَلْطَ وَقَعَ فِي مَرْتَبَةِ المِصْدَاقِ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ؟ فِي حِينِ أَنَّ عِلْمَنَا بِالمِصْدَاقِ لَيْسَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ عِلْمِنَا بِالمَفْهُومِ، وَبِالتَّالِي إِذَا كَانَ مَفْهُومُ الوُجُودِ مَفْهُومًا وَاحِدًا يَنْطَبِقُ عَلَى الوَاجِبِ وَعَلَى المُمْكِنِ لاَبُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي المِصْدَاقِ أَيْضًا; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَبِقَ المَفْهُومُ الوَاحِدُ عَلَى حَقِيقَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ تَمَامًا فِي المِصْدَاقِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، فَإِنَّ القَوْلَ بِالإِشْتِرَاكِ المَعْنَوِيِّ فِي مَقَامِ المَفْهُومِ هُوَ ذَاتُهُ القَوْلُ بِالإِشْتِرَاكِ فِي مَقَامِ المِصْدَاقِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ فَوَارِقُ فِي المِقْدَارِ وَالسَّعَةِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُ مِنْ طَبِيعَةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ.

     المُلَاحَظَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا لَمْ تُقْبَلِ المُلَاحَظَةُ الأُولَى مَعَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَسَلَّمْنَا مَعَهُمْ بِالإِشْتِرَاكِ المَعْنَوِيِّ فِي المَفْهُومِ كَمَا وَصَفُوا، نَسْأَلُ: هَلِ التَّغَايُرُ عَلَى مُسْتَوَى المِصْدَاقِ كَافٍ لِنَفْيِ المُشَابَهَةِ وَالمُشَاكَلَةِ مُطْلَقًا بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ أَمْ لَا؟ مِنَ الوَاضِحِ أَنَّ هُنَاكَ مَسَافَةً فَاصِلَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالمَوْصُوفِ أَوْ بَيْنَ المَفْهُومِ وَالمِصْدَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ المَسَافَةَ تَنْدَكُّ فِي مَرْحَلَةِ التَّحَقُّقِ الخَارِجِيِّ سَوَاءٌ كَانَ المَوْصُوفُ هُوَ عَيْنَ الصِّفَةِ أَمْ كَانَتِ الصِّفَةُ عَارِضَةً عَلَيْهِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ أَوْ المَفْهُومَ حَقِيقَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ المِصْدَاقِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّشَابُهُ المُتَحَقِّقُ فِي مَرْتَبَةِ المَفْهُومِ نَاتِجًا عَنِ التَّشَابُهِ فِي مَرْتَبَةِ المِصْدَاقِ، وَإِلَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ المَفْهُومُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَصَادِيقَ مُتَبَايِنَةٍ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ المُطَابَقَةِ بَيْنَ المَصَادِيقِ فَعَلَى الأَقَلِّ لاَبُدَّ مِنْ وُجُودِ دَرَجَةٍ مِنَ التَّشَابُهِ حَتَّى يَصِحَّ نَزْعُ مَفْهُومٍ مُشْتَرَكٍ.

     المُلَاحَظَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَبِلْنَا أَنَّ هُنَاكَ مَفْهُومًا لِلوُجُودِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ، نَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ المَفْهُومِ مَا هُوَ؟ إِنْ كَانَ المَقْصُودُ مِنْهُ الوَاقِعِيَّةَ المُتَحَقِّقَةَ فِي الخَارِجِ الطَّارِدَةَ لِلعَدَمِ بِمَعْنَى أَنَّ المَوْجُودَ هُوَ الغَيْرُ مَعْدُومٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ المَقْصُودَ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَاتِهِمْ، حِينَهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَدَّعِيَ أَنَّنَا عَرَفْنَا الوُجُودَ وَأَدْرَكْنَا حَقِيقَتَهُ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا بِالتَّطَابُقِ الكَامِلِ بَيْنَ مَعْنَى الوُجُودِ وَبَيْنَ مَعْنَى غَيْرِ مَعْدُومٍ، وَهُنَا نَسْأَلُ:

     هَلْ التَّحَقُّقُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى طَرْدِ العَدَمِ، هَلْ هُوَ لَازِمٌ لِلوُجُودِ أَمْ هُوَ ذَاتُهُ الوُجُودُ؟

     وَهَلْ الإِشْرَاقُ مِنْ لَوَازِمِ النُّورِ أَمْ هُوَ ذَاتُهُ النُّورُ؟ وَهَلْ نَفْيُ الجَهْلِ مِنْ لَوَازِمِ العِلْمِ أَمْ هُوَ ذَاتُهُ العِلْمُ؟

     فَإِذَا قُلْنَا مَثَلًا: إِنَّ العِلْمَ يَعْنِي عَدَمَ الجَهْلِ. هَلْ هَذَا يَعْنِي أَنَّ طَبِيعَةَ العِلْمِ وَحَقِيقَتَهُ هِيَ ذَاتُهَا لَيْسَ بِجَهْلٍ، أَمْ أَنَّ العِلْمَ حَقِيقَةً لَهَا إِنِّيَّتُهَا الخَاصَّةُ، وَمِنْ لَوَازِمِهَا طَرْدُ الجَهْلِ؟

     مِنَ الوَاضِحِ بِالبَدَاهَةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّوَازِمِ، فَإِذَا كَانَ المَعْلُولُ مِنْ لَوَازِمِ العِلَّةِ التَّامَّةِ فَهَلْ يَعْنِي أَنَّ المَعْلُولَ هُوَ ذَاتُهُ العِلَّةُ؟ وَعَلَيْهِ إِذَا سَلَّمْنَا بِوُجُودِ اشْتِرَاكٍ فِي المَفْهُومِ فَهُوَ فِي مَرْتَبَةِ (نَفْيِ العَدَمِ) وَلَا نُسَلِّمُ بِالإِشْتِرَاكِ فِي حَقِيقَةِ وَطَبِيعَةِ الوُجُودِ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ مَفْهُومَ الوُجُودِ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ لَيْسَ مَفْهُومًا لِلوُجُودِ بِمَا هُوَ وُجُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْهُومٌ لِلوَاقِعِيَّةِ الَّتِي تَعْنِي التَّحَقُّقَ الطَّارِدَ لِلعَدَمِ، وَالوَاقِعِيَّةُ وَالتَّحَقُّقُ لَيْسَتْ هِيَ الوُجُودَ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَمِنْ هُنَا لَا نَقْبَلُ كُلَّ العَنَاوِينِ الَّتِي تَمَّ تَرْتِيبُهَا عَلَى هَذَا المَفْهُومِ. وَبِذَلِكَ يَرْتَفِعُ إِشْكَالُ العَلَّامَةِ الطَّبَاطَبَائِيِّ رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ عِنْدَمَا قَالَ: (بِأَنَّا إِمَّا أَنْ نَقْصِدَ بِالوُجُودِ الَّذِي نَحْمِلُهُ عَلَى الوَاجِبِ مَعَنًى أَوْ لَا؟ وَالثَّانِي يُوجِبُ التَّعْطِيلَ، وَعَلَى الأَوَّلِ إِمَّا أَنْ نَعْنِيَ بِهِ المَعْنَى الَّذِي نَعْنِيهِ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى المُمْكِنَاتِ وَإِمَّا أَنْ نَعْنِيَ بِهِ نَقِيضَهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ نَفْيُ الوُجُودِ عَنْهُ عِنْدَ إِثْبَاتِ الوُجُودِ لَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) فَالمَعْنَى الَّذِي نَحْمِلُهُ فِي الحَالَتَيْنِ هُوَ التَّحَقُّقُ وَالوَاقِعِيَّةُ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَوْنُ الوُجُودِ حَقِيقَةً مُشَكَّكَةً ذَاتَ مَرَاتِبَ وَالَّتِي تَقُودُنَا إِلَى وَحْدَةِ الوُجُودِ، فَالقَوْلُ إِنَّ الوَاقِعِيَّةَ وَطَرْدَ العَدَمِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الوُجُودَاتِ لَا يَقُودُ أَبَدًا إِلَى أَنَّ الوُجُودَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الوَاجِبِ وَالمُمْكِنِ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: أَنْ لَيْسَ لِلوُجُودِ حَقِيقَةٌ سِوَى طَرْدِ العَدَمِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ، وَهَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الهَلِيَّاتِ البَسِيطَةِ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَلِ الإِنْسَانُ مَوْجُودٌ؟ لَيْسَ سُؤَالًا عَنْ حَقِيقَةِ الوُجُودِ أَوْ طَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ التَّحَقُّقِ فِي الخَارِجِ المُقَابِلِ لِعَدَمِ التَّحَقُّقِ، وَهُوَ كَافٍ لِلحَمْلِ عَلَيْهِ، فَمَنْ يَقُولُ: هَلْ زَيْدٌ فِي الدَّارِ؟ لَا يَسْأَلُ عَنْ طَبِيعَةِ وَحَقِيقَةِ وُجُودِ زَيْدٍ الَّذِي أَصْبَحَ بِهِ مَوْجُودًا وَمَخْلُوقًا، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ تَحَقُّقِهِ المُقَابِلِ لِعَدَمِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ تَمَامًا لِحَقِيقَةِ الوُجُودِ، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَدِلَّةٍ تَامَّةٍ فِي إِثْبَاتِ الوَاقِعِيَّةِ الدَّافِعَةِ لِلعَدَمِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ طَبِيعَةِ الوُجُودِ طَبِيعَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، وَهُنَا تَكْمُنُ المُغَالَطَةُ.

     وَبِذَلِكَ تَكُونُ لَفْظَةُ الوُجُودِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ مُجَرَّدَ مُشْتَرَكٍ لَفْظِيٍّ، وَالَّذِي يُصَحِّحُ اسْتِخْدَامَهَا لِكِلا الوُجُودَيْنِ هُوَ نَفْيُ العَدَمِ، أَمَّا حَقِيقَةُ وُجُودِ الخَالِقِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ وَجُودِ الإِنْسَانِ. يَقُولُ الإِمَامُ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (.. كَمَا أَنَّا رَأَيْنَا عُلَمَاءَ الخَلْقِ إِنَّمَا سُمُّوا بِالعِلْمِ لِعِلْمٍ حَادِثٍ إِذْ كَانُوا قَبْلَهُ جَهَلَةً، وَرُبَّمَا فَارَقَهُمُ العِلْمُ بِالأَشْيَاءِ فَصَارُوا إِلَى الجَهْلِ، وَإِنَّمَا سُمِيَّ اللهُ عَالِمًا لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ شَيْئًا، فَقَدْ جَمَعَ الخَالِقُ وَالمَخْلُوقُ اسْمَ العِلْمِ وَاخْتَلَفَ المَعْنَى عَلَى مَا رَأَيْتَ.. قَدْ جَمَعَنْا الإِسْمَ وَلَمْ يَجْمَعْنَا المَعْنَى)(4).

     وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ أَسَاسَ التَّوْحِيدِ هُوَ تَمْيِيزُهُ عَنْ خَلْقِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ اللهُ بَايِنًا عَنْ خَلْقِهِ بَيْنُونَةً فِي الصِّفَةِ لَا فِي العُزْلَةِ، فَهُوَ المُتَفَرِّدُ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وَلَا يَشْبَهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ الوُجُوهِ، يَقُولُ الإِمَامُ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (دَلِيلُهُ آيَاتُهُ، وَوُجُودُهُ إِثْبَاتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ تَوْحِيدُهُ، وَتَوْحِيدُهُ تَمَيُّزُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَحُكْمُ التَّمْيِيزِ بَيْنُونَةُ صِفَةٍ لَا بَيْنُونَةُ عُزْلَةٍ، إِنَّهُ رَبٌّ خَالِقٌ غَيْرُ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٍ، كُلُّ مَا تُصُوِّرَ فَهُوَ بِخِلَافِهِ)(5).

     وَيَقُولُ الإِمَامُ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (مُبَايَنَتُهُ إِيَّاهُمْ مُفَارَقَتُهُ إِنِّيَّتُهُمْ، كُنْهُهُ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، مُبَايِنٌ لَا بِمَسَافَةٍ، فَكُلُّ مَا فِي الخَلْقِ لَا يُوجَدُ فِي خَالِقِهِ، وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ فِيهِ يَمْتَنِعُ عَنْ صَانِعِهِ)(6).

     وَعَنِ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خُلُوٌّ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقُهُ خُلُوٌّ مِنْهُ)(7).

     أَمَّا بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَحَيَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَجْرِي فِيهَا الكَلَامُ السَّابِقُ مَعَ إِضَافَةٍ خَاصَّةٍ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ نَتْرُكُهَا لِفُرْصَةٍ أُخْرَى.

__________________________

1- العلامة الطباطبائي نهاية الحكمة ص 8.

2- المصدر السابق ص 9.

3- المصدر السابق ص9.

4- توحيد الصدوق، ص 190.

5- الإحتجاج – الطبرسي ج 1 ص 299.

6- مسند الإمام الرضاء – الشيخ عزيز الله عطاردي ج1 ص 41.

7- التوحيد – الشيخ الصدوق ص 105 –بحار الأنوار ج3 ص 263.