مناقشة التعليقات.

إِجَابَتُكُمْ غَيْرُ مُقْنِعَةٍ بِالنِّسْبَةِ (الغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْطَانِ) خَاصَّةً النُّقْطَةُ الثَّالِثَةُ.  الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَقُولُ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56))، أَيْ أَسَاسُ الخَلْقِ وَالغَايَةُ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالشَّيْطَانُ مِنْ الْجِنِّ لَكِنَّهُ فَسَقَ فَأَصْبَحَ عَدُوَّ الإِنْسَانِ، وَأَكِيدُ العَدُوُّ كُلُّهُ شَرٌّ وَلَا يُرِيدُ الخَيْرَ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)).  يَا رِيت تَكُونُ إِجَابَاتُكُمْ وَاضِحَةً مُقْنِعَةً مَعَ أَدِلَّةٍ مِنْ القُرْآنِ وَرِوَايَاتِ أَهْلِ البَيْتِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ).  إِنَّهُ مُتَابِعٌ إِجَابَاتِكُمْ، لَكِنَّهَا تَفْتَقِدُ لِلكَثِيرِ مِنْ الأَدِلَّةِ المُقْنِعَةِ لِلمُقَابِلِ لَا تَكُونُ إِجَابَاتُكُمْ مُخْتَصَرَةٌ وَقَصِيرَةٌ، نَعَمْ، إِذَا كَانَتْ مُسْتَنِدَةً لِلدَّلِيلِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

: اللجنة العلمية

      قَبْلَ المُنَاقَشَةِ نَشْكُرُ الأَخَ السَّائِلَ لِتَفَضُّلِهِ بِالسُّؤَالِ، فَإِنَّ العِلْمَ يَحْيَى بِالمُبَاحَثَةِ وَالمُنَاقَشَةِ الَّتِي الغَرَضُ مِنْهَا الوُصُولُ إِلَى الحَقِيقَةِ بِالأَسَالِيبِ العِلْمِيَّةِ، مَعَ مُرَاعَاتِ المَوَازِينِ العِلْمِيَّةِ وَالإسْتِعْدَادِ العِلْمِيِّ الكَافِي لِتَقَبُّلِ الأَجْوِبَةِ، لِأَنَّ هَكَذَا مَسَائِلُ دَقِيقَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى تَهْيِئَةِ المُقَدِّمَاتِ المَنْطِقِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ وَأَسَالِيبِ قِرَاءَةِ النَّصِّ الشَّرْعِيِّ.. وَكُلُّنَا ثِقَةٌ بِتَحَقُّقِ هَذِهِ الأُمُورِ لَدَى السَّائِلِ الكْرِيمِ.

      بَعْدَ هَذَا نَقُولُ:

      أَوَّلًا: فِي جَوَابِنَا عَنْ السُّؤَالِ اعْتَمَدْنَا عَلَى قَانُونِ النِّسْبِيَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ المَفَاهِيمِ العَقْلِيَّةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَكَابِرِ الحُكَمَاءِ كأرُسْطُوا وَالفَارَابِي وَابْنِ سِينَا.

      وَهُوَ مَعْمُولٌ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الأَئِمَّةِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ)، وَالنُّصُوصُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: نَهْيُ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) حمْرَانَ ابْنَ أُعْينَ عَنْ مُنَاقَشَةِ المُخَالِفِينَ وَأَمْرُهُ لِهُشَامِ بْنِ الحَكَمِ بِالمُنَاقَشَةِ، فَالمُجَادَلَةُ بِالنِّسْبَةِ لحمْرَانَ غَيْرُ مَسْمُوحٍ بِهَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِهُشَامٍ جَائِزَةٌ.

      فَلَا نَعْرِفُ عَدَمَ المَنْطِقِيَّةِ فِي الجَوَابِ وَنَحْنُ فِي الأَصْلِ نَعْتَمِدُ قَوَاعِدَ المَنْطِقِ وَأَسَالِيبَ المُنَاظَرَةِ؟.

      وَثَانِيًا: الآيَةُ تَقْضِي بِعُبُودِيَّةِ الْجِنِّ والإنْسِ لِلخَالِقِ، وَهَذَا بِحَسَبِ المُقْتَضِي وَلَيْسَ هُوَ بِحَسَبِ الوَاقِعِ، وَلَوْ كَانَ بِحَسْبِ الوَاقِعِ لَلَزِمَ نِسْبَةَ الكَذِبِ إِلَيْهِ تَعَالَى شَأْنُهُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِ والإنْسِ لَا يَعْبُدُونَه، وَمَا قَولُهُ تَعَالَى (ثُلَّةٌ مِنْ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)) إِلَّا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ العُبُودِيَّةَ هِيَ بِنَحْوِ المُقْتَضِي.

      وَعَلَيْهِ لَا مُنَافَاةَ بَينَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الشَّيْطَانِ لِأَجْلِ العُبُودِيَّةِ، وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ يَكُونُ مَحَلَّ اخْتِبَارٍ لِلإِنْسَانِ، فَبَعْدَ تَحَدِّيهِ وَطَرْدِهِ مِنْ سِلْكِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ بِهَذَا التَّحَدِّي وَالعِصِيَّانِ مُقْتَضَاهُ عَنْ العُبُودِيَّةِ، كَمَا البَذْرَةُ قَبْلَ فَسَادِهَا فِيهَا القَابِلِيَّةُ لِأَنْ تَكُونَ نَبْتَةً، لَكِنْ بَعْدَ فَسَادِهَا زَالَ عَنْهَا ذَلِكَ الإقْتِضَاءُ.

      وَصَرِيحُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) وَالجَوَابُ: )قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: )ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17) (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)).

      فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى العُبُودِيَّةِ، وصَيرُورَتُه غَاوٍ لِلإِنْسَانِ، فَيَكُونُ بِهَذَا مَحَلَّ اخْتِبَارٍ لِلإِنْسَانِ، فَمَنْ أَطَاعَهُ كَانَ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالى: (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وَمِنْ عَصَاهُ يَكُونُ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).

      وَثَالِثًا: أنَّ النُّصُوصَ الكَثِيرَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، جَاءَ فِي الخِصَالِ لِلشَّيْخِ الصَّدُوقِ عَنْ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ:

      قَالَ إِبْلِيسُ: خَمْسَةُ أَشْيَاءٍ لَيْسَ لِي فِيهِنَّ حِيلَةً، وَسَائِرُ النَّاسِ فِي قَبْضَتِي: مَنْ اعْتَصَمَ بِاللهِ عَنْ نِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَمَنْ كَثُرَ تَسْبِيحُهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِأَخِيهِ المُؤْمِنِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْزَعْ عَلَى المُصِيبَةِ حِينَ تُصِيبُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ وَلَمْ يَهْتَمَّ أَرْوِقَةً؟ 

      فَالحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ خَيْرًا لِلإِنْسَانِ وَذَلِكَ مَعْصِيَتُهُ. 

      وَرَابِعًا: الأَدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ، هِيَ الأَدِلَّةُ العَامَّةُ الَّتِي هِيَ إحْدَى الحُجَّتَيْنِ لِلهِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ الأنبِيَاءِ.

      قَالَ الإِمَامُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَا هُشَامُ، إِنَّ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَحُجَّةٌ بَاطِنَةٌ، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ)، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.

       وَنَحْنُ نَتْبَعُ الطَّرِيقَ العَامَّ، لِأَنَّهُ أَوَّلًا: الأَصْلُ. وَثَانِيًا: هُوَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الجَمِيعِ.

      أَمَّا الأَهْوَاءُ وَالمزاجِيَّاتُ فَلَا، فَبَعْضٌ يَرَى البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا هُمَا الحُجَّةَ، وَبَعْضٌ يَرَى الكَافِيَ، وَبَعْضٌ الإِنْجِيلَ، وَقَوْمٌ يَقُولُ: هَذَا لَا يُعْجِبُنِي، وَهَذَا مَقْنِعٌ وَذَاكَ لَيْسَ بِمَقْنِعٍ، وَهَذَا يَكْفِي وَذَاكَ غَيْرُ كَافٍ.  وَالمِلَاكُ: مَا وَافَقَ مَزَاجَهُ وَغَرَضَهُ فَهُوَ الحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ البَاطِلُ وَلَيْسَ بِالمَنْطِقَةِ.

       وَأَخِيرًا: إنَّ وَظِيفَتَنَا هِيَ إِبْدَاءُ المَفَاهِيمِ الحَقَّةِ بِالطُّرُقِ العِلْمِيَّةِ السَّلِيمَةِ، أَمَّا إِقْنَاعُ النَّاسِ فَلَيْسَ مِنْ وَاجِبَاتِنَا، فَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

      وَمَا قَضِيَّةُ الإِمَامِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَعَ المُصَلِّينَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، حِينَ بَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ اللهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَرَفْضُهُمْ لَهُ بِدَعْوَى التَّمَسُّكِ بِسُنَّةِ الشَّيْخَيْنِ، إِلَّا سَنَةٌ نَتْبَعُهَا وَنَسِيرُ عَلَى نَهْجِهِ فِيهَا.

     وَآخَرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.