رحمة الإنسانيّة، ولعنة الإنسانوية !

: السيد علي الحسيني

هل هناك أساس علماني(لاديني) للاعتقاد بأنّ البشر مؤهلون لمكانة أخلاقية خاصة أو كرامة خاصة؟!.

(فوكوياما- انظر: نهاية الإنسان،ص217).

تشيع في زماننا الدعوة للقيم الإنسانيّة، ويتمّ تداول مصطلح "الإنسانيّة" للإشارة إلى معيار عام لسلوك البشر، أفراداً ومجتمعات، ولوضع مرجعيّة لتقييم الأفعال والأشخاص، فيقال: هذا العمل إنساني، وذاك غير إنساني، وفلان يقوم بعمل إنساني، وهذا مجتمع غير إنساني، وذاك المجتمع إنساني..وهكذا. 

والإنسانيّة مصدر مجعول ومأخوذ من إنسان، ويراد به الإشارة للإنسان من حيث هو، و بما يحمله من قيم أوليّة طبيعيّة بصرف النظر عن الصفات والعادات والأديان والمذاهب الطارئة على هذه الطبيعة، وإنّما الاحتكام والمعايرة بالعودة للضمير الإنساني المجرّد بوصفه القاسم المشترك والمقبول بين البشر.

الدعوة للإنسانيّة تعني الدعوة لقيم كونية شاملة، والاحتكام لأخلاق بمقاييس عالمية يرتضيها الجميع بحكم أنّها غير منتمية لدين، ولا خاصّة  بفئة من البشر،  وإنّما هي متوافقة بل منبثقة من صميم الإنسان وطبيعته الأولى؛ لذا تلاقي ترحاباً وقبولاً من الجميع.

ومن منطلق صادق، وبنيّة حسنة: يتداول الناس وبعض النخب مفردة الإنسانيّة في أخلاقيات الرحمة والتعاون والعطف وغيرها من معانٍ سامية وقيم نبيلة يتفرد بها الكائن البشري، وهي هنا ليست مذهباً و لا تنطوي على موقف رافض للدين والإيمان بالله، بل هذا المعنى غالباً غير ملتفت إليه، إلا أنّ الأمر مختلف كليّاً عند معتنقي ودعاة الإنسانوية ( Humanism)، إذ يجري التداول هنا للإشارة إلى مذهب فلسفي خاص، ونزعة محددة وعقيدة لها منظّرون وجمعيات ومراكز عالميّة.. تحمل رؤية ماديّة صرفة للحياة والكون والإنسان، وتسعى لتصدير رؤيتها عبر مصطلح جديد لا ينطوي على سمعة سيئة و حمولة سلبية عند البشر كما هو الحال مع مصطلح الإلحاد، وهي الرفض التام للغيب، والنفي الكلي لما وراء الطبيعة، والإنكار المطلق للمطلق(الإله) وإحلال الإنسان(ببعده المادي) محله.

     تقوم الإنسانوية كمذهب- بحسب دعاتها ومنظّريها –على سبعة مبادئ، هي بمنزلة الخصائص، و أهمّها: 1- الإيمان بسيادة العقل سيادة مطلقة ووجوب استخدامه في كافّة مناحي الحياة. 2-الإنسانويون: إمّا ملحدون أو على الأقل لا أدريون. إنّهم يتشككون في الزعم بوجود إله. 3- الإيمان بأنّ هذه الحياة هي الحياة الوحيدة لنا، فلا توجد حياة أخرى تعود فيها أرواحنا إلى أجسادنا بعد موتنا. كما لا توجد جنة أو نار. 4- تنطوي الإنسانوية على إيمان شديد بوجود وأهميّة القيمة الأخلاقيّة..(ستيفن لو- الإنسانوية،ص10ط: مؤسسة هنداوية-الطبعة الأولى:2016م، ترجمة: ضياء ورّاد).

والسؤال المركزي هنا: هل يمكن لهذا المذهب أن يؤسس للقيم الأخلاقيّة "التي يؤمن بها إيماناً شديداً بوجودها وأهميتها" وفي الوقت نفسه: يدعو للسيادة المطلقة للعقل، وينكر وجود الله ولايؤمن إلا بعالم الطبيعة؟ وبكلمة أخرى: هل المذهب الإنسانوي يطرح رؤية منسجمة المبادئ؟. يزعم المقال أنّ ثمّة تهافت كبير، وتضاد صارخ فيما بين النقاط آنفاً، وتحديداً بين النقطتين:(2-و4)، أي بين تبنيها الإلحاد، وبين إيمانها الشديد بوجود القيم الأخلاقيّة؛ إذ لا يمكن الإيمان بوجود القيم مطلقاً(الأخلاقية وغيرها) إلا بعد القبول بالمطلق، والإيمان بالبعد الغيبي في الوجود والإنسان، ويستدعي هذا، أولاً وقبل كلّ شيء، بيان فهوم القيم، وما تعنيه بالضبط بشكل موجز.

ينتمي مبحث القيم إلى عالم الفلسفة، ويمثّل باباً رئيساً من أبوابها، ومبحثاً مهمّا من مباحثها، إذ تقسّم الفلسفة ككل وتنشطر مباحثها إلى ثلاثة أبواب لا رابع لها: 1- الوجود(الأنطولوجيا). 2-المعرفة(الإبستمولوجيا)3-القيم(الأكسيولوجيا)، ويتفرع هذا الباب ويتمثّل في ثلاث قيم رئيسة، إليها ترجع جميع القيم: 

أ‌- القيم العقليّة: الحق والباطل، أو الصح والخطأ. والمعني بهذه المعايرة هو علم المنطق.

ب‌- القيم الحسيّة: ومردّها إلى الجمال والقبح، وظيفة الفنون عامّة هي وضع المعايير لهذا الجانب.

ت‌- القيم الأخلاقيّة: الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة. وهذا هو حقل وميدان علم الأخلاق.

هذه القيم ليس لها من صلة بالمادة، ولا تربطها علاقة بعالم الطبيعة، فعالم الطبيعة عالم محايد إزاء كلّ شيء لا معايرة فيه، وتتساوى عنده جميع الأشياء، وليس في الطبيعة صحّ أو خطأ، ولا في المادة الصمّاء جميل وقبيح ولا خير وشر، ولا فضيلة ورذيلة، ثمّة شيء أكبر أو أصغر من آخر، وثمّة أجسام متحركة وأخرى ساكنة، وهناك أجسام ناميّة وغير ناميّة، تختلف الألوان والأشكال والأحجام، لكن ليس هناك تمايز قيمي، ولا أحكام مطلقة، كل شيء نسبي متغير. وتبدو هذه الفكرة غريبة، لكن بعض الأمثلة ربما تسهل هضمها وفهمها.

بخصوص القيم العقليّة الأوليّة، فكل ما يمثل خروجاً عن الجنون والحيونة فهو بالضرورة يعبّر عن وجود أحكام قيمية وملاكات واقعيّة ينطلق الإنسان منها في اعتبار هذه الفكرة صحيحة، بينما تلك خاطئة، فمثلاً: وأنت تقرأ هذه السطور بامعان؛ لا تتردّد بتخطئة الفكرة القائلة: إنّ هذا المقال ليس له كاتب، وفي الوقت نفسه: ترى جازماً صوابيّة نقيضها: للمقال كاتب. وهكذا. وفي الحالتين أنت تنطلق من معيار(قيمة) مفادها: لا شيء ينشأ بالصدفة !

والتعبير عن قيم الجمال بالقيم الحسيّة يفتقر للدقة، ولا يخلو من مسامحة، فلا يكمن الجمال في لوحات بيكاسو أو دافنشي بما اشتملت عليه من كميّات المواد المبذولة فيها، ولا الألوان المستخدمة، ولا في أحجامها، والأمر ذاته في الأصوات الجميلة، فالمعيار فيها ليس في مقدار الكلمات، ولا في النطق السليم للحروف، وهكذا القصائد الجميلة، جميع هذه الأمثلة تخفي ورائها قيمة جماليّة وراء الصور والأصوات المحسوسة، ودور هذه الأخيرة أنّها تحيل إلى تلك القيم، وكلمّا كانت الإحالة أكبر كانت الصور المحسوسة أجمل، وهنا وظيفة الفن.

الأهمّ من كلّ ذلك، هو الحديث عن القيم الأخلاقيّة، والمهمّة في هذا الجانب تبدو مستعصيّة، بل مستحيلة وفقاً للمنظور الإلحادي، ويقرّ بهذا المعنى أشرس الملحدين في عصرنا الراهن( دوكينز) فكتب يقول: من الصعب أن ندافع عن الأخلاقيات المطلقة على أسس غير دينية. (وهم الإله، ص 234)، وليس مهمّا هذا الاعتراف بقدر ما يهمنا معرفة السبب، فلماذا لايتماشى التأسيس لمنظومة قيم أخلاقيّة/إنسانيّة مع تبني المنظور المادي؟! 

في الواقع ، ثمّة أكثر من سبب: فأول الأسباب وأيسرها للفهم، هي أنّ المشكلة أنّ التصرف الأخلاقي لا يتوافق مع المصلحة الذاتية، بل هما متضادان، فعماد الأخلاق الإنسانية وعمودها يتقوم بالتضحية والإيثار والفداء، وبالضد من ذلك: القيم الأخلاقيّة الحيوانية المتقومة على المصلحة الذاتيّة والمنفعة الشخصيّة، فمنطق لأخلاقيات الإنسانيّة تقوم على المبادئ والقيم، فيما منطق الحيوان هو المصلحة والمنفعة.

وبقدر ما تبدو فيه هذه الفكرة سهلة، فإنّها بلغت من العمق ما أهلها لئن تكون إحدى الحجج والبراهين المؤثّرة على رئيس مشروع الجينوم البشري فرانسيس كولنز (ولد سنة :1950م)، لتعيده إلى الإيمان، ليقول بعد اطلاعه عليها: أدركتُ أنّ موقفي ضد عقلانية الإيمان بالله لا يعدو عن كونه أفكار طفل في المدرسة ...ويضيف أنّها: أكثر حجة شدت انتباهي وحطمت أفكاري عن العلم والإيمان من أساسها. . (فرانسيس كولنز - لغة الإله ص27 ، ترجمة : صلاح الفضلي ، الطبعة الأولى : 2016 – الكويت .).

وجوهر الفكرة، وزبدة الحجّة أنّ ضميرنا يوجهنا صوب قانون أخلاقيّ لا منشأ له في العالم الطبيعي ، ممّا يُشير إلى وجود موجدٍ للقانون متعال عن الطبيعة، وليس هنا متسع لعرض هذه الحجّة بتفصيل، لكن نحيل القارئ إلى ما كتبه المفكر الإنجليزي، والأستاذ في جامعة أكسفورد كلايف ستيبلز لويس(ت1963م):ويتلخص ما أفاده بهذا الشأن في مقدمتين، ونتيجة:

المقدمة الأولى : القيم الأخلاقية موجودة بوجود حقيقي ، فلدى كل الكائنات البشرية فكرة فريدة بأنّ عليهم أنّ يتصرفوا بطريقة معينة وليس في وسعهم التخلص من هذه الفكرة . 

المقدمة الثانية: لوجود تلك القيم الأخلاقية فينا خمسة احتمالات متصورة:1ـ إما  نابعة من دوافع أنانية تطورية 2ـ أو  اعتبارية ومن مواضعات المجتمع.3ـ أو من الطبيعة .4ـ أو متخيلة وموهومة. يبطل لويس هذه الافتراضات الأربعة واحداً بعد آخر ، فيتعين الخامس :5ـ أنّها مودعة في ذات الإنسان وجوهره .

ويستنتج من ذلك: ضرورة وجود قوة مودعة لهذه القوانين .(انظر- الباب الأول من كتابه: المسيحية المجردة، ص21 ، الطبعة العربية الأولى : 2006م - أوفير للطباعة والنشر ، الأردن ).

ختاماً، وجواباً عن سؤال فوكوياما في صدر المقال: هل هناك أساس (لاديني) للاعتقاد بأنّ البشر مؤهلون لمكانة أخلاقية خاصة ؟!.

الجواب هو النفي؛ والسبب هو أنّ قطع الصلة بالله والدين والغيب بالكليّة، يفضي إلى وضع مرجعيّة بديلة تستلّ منها " الكرامة أو المكانة" التي تسائل عنها فوكوياما، والبديل المتصوّر هو الإنسان بوجوده الفرداني، وعقله المصلحي، وهو بهذا الاعتبار- كما قال هيوم وصدق فيما قال- لا ينافي أن يفضّل تدمير العالم بأسره على أن تخدش إصبعه.(انظر-الإنسانوية،ص26)، هذه هي لعنة الإنسانوية !

 وأمّا المعاني الإنسانية الساميّة، وقيم التعاطف والتعاون والإحسان للغير فتعود -وفقا للمنظومة الدينية - إلى الرحمة الإلهية المودعة فينا، ففي الحديث: إن لله عزّ وجلّ مئةَ رحمة، أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون ويتراحمون، وأخّر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة. (تفسير الصافي للكاشاني،ج1،ص82). لكن يفضّل كثيرون الحديث عن الإنسانوية  فقط، من أجل أن ينسوا الله بضمير مرتاح. مثلما يقول الفيلسوف الكولمبي: دافيلا.

 

المرفقات