في نقد نظرية الغيبة الشخصيّة, "الغيبة الكبرى" غَيبة الشخص أم تشخيصه؟

: السيد علي الحسيني

هناك نظريّتان في تفسير غيبة الإمام المهدي: هل هي خفاء ذاته و غيبة شخصه أم هي غيبة عنوانه وخفاء تشخيصه؟!، فبعد الاتفاق والتسليم على أنّ الإمام المهدي حيٌ يرزق، لكنّه غائب، و وقع الكلام في حقيقة هذه الغيبة على تفسيرين:

التفسير الأول- وهو الرأي الشائع بين علماء الشيعة، ويفيد أنّ غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) تعني ظهور شخصه وخفاء هويته، وغياب عنوانه، فيراه الناس، لكنّهم لا يعرفونه، ومعنى ذلك أنّه منظور لهم، لكنّه غير مشخّص من قبلهم بوصفه الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض قسطا وعدلاً، وهذا يقتضي بأنّ تخفي الإمام يتمّ عبر التمويه واتخاذ بعض الاجراءات الاحترازية التي يتخذها المطاردون عادة من شأنها أن تخفي التشخيص مثل: تغيير المكان، واستخدام الاسماء الحركيّة..، ويمكن مقاربة هذا المنحى في تفسير الغيبة بما وقع لموسى مع فرعون، فقد كان موسى حاضر الذات، وشاخص العين أمام فرعون بل يعيش معه في قصره، لكنّ خفي على فرعون تشخيص موسى، و غاب عنه عنوانه.

التفسير الثاني- يرى أنّها غياب الذات عن الأبصار، وخفاء الشخصية عن الأنظار، فلم يعد الجسم مُدركاً، ولا البدن مرئيّاً. وأبرز من نادى بهذه النظريّة هو الشيخ أحمد الأحسائي(ت1241هـ)، الذي يعزو سبب الاحتجاب هذا إلى أنّ الإمام قد انتقل من عالم الدنيا المحسوس ذي الأجسام الكثيفة إلى عالم يتوسط عالم الأجسام، وعالم النفوس. واصطلح عليه هو بـ(الهورقليا)- لفظة سريانية، والجسم الهورقليائي عنده هو الجسم الأثيري(أو المثالي) عند غيره، وهو الواسطة بين الجسم المادي الثقيل وبين الروح، وبالرغم من وضوح هذا المعنى عند الأحسائي ففي الرسالة الرشتية مثلاً كتب جواباً عن سؤال يتعلق بمكان وموضع ظهور الإمام جاء فيه: [إنّ الإمام] فرّ من هذه المسمّاة بـالدنيا، وانتقل إلى الأولى، التي عبّر عنها بعالم المثال.. إلا أنّ علماءُ المدرسة الشيخيّة من أتباعه ينفون عنه الاعتقاد بخروج الإمام المهدي من الدنيا، بل عدّوا ذلك من الافتراء عليه. (انظر-توضيح الواضحات،الأحقاقي،ص131، وص159).

وأبرز خصائص وتداعيات هذا التفسير:

أولاً- إنّ فكرة خفاء الشخص تدفع سلفاً اشكاليّة طول العمر في الإنسان الطبيعي؛ والسبب واضح، فهي لا ترى من الأساس أنّ الإمام يعيش في فترة الغيبة الكبرى ببدن عنصري كثيف، وجسم طبيعي محسوس لتجري عليه سنن عالم الطبيعة التي تجري على سائر البشر.

ثانياً- ينعكس الاختلاف في تفسير الغيبة على ضدها أيضاً: (الظهور) ليكونا بناءً على النظرية الأولى: مفهومان نسبيان، وليسا حقيقتين مستقلتين في نفسهما، ولا متقابلتين في ذاتهما، وإنّما نشاءا من اختلاف طبيعة عالمنا الذي نعيش فيه الآن عن العالم الذي يعيش فيه الإمام، ومن ثمّ فالظهور يكون في غير عالمنا، وإنّما في عالم الإمام  الذي يعيش فيه الآن(عالم المثال). ويرتدّ ذلك طبعاً على تعجيل الظهور أو تأجيله، فيغدو -مع فكرة غيبة الجسم- من وظائف الأمة مباشرة، فهو ينتظر قدومها إلى عالمه.

ثالثاً-ويتمايز الرأيان أيضاً في مسألة اللقاء بالإمام ومشاهدته في فترة الغيبة، فتقضي نظريّة خفاء الجسم أنّ ذلك غير متاح، فضلاً عن ذلك أنّها تقطع الطريق أمام أدعياء المهدويّة، والعكس صحيح مع نظريّة المشهور(خفاء التشخيص والعنوان)، إذ يبقى إمكان انطباق العنوان مفتوحاً، فضلاً عن أنّ إمكانيّة رؤيته والتشرف بلقائه يغدو أمراً متاحاً للجميع، فلا يتعارض هذا المنحى من التفسير الطبيعي للغيبة مع اللقاء والمشاهدة، مثلما هو واضح.

تقييم نظريّة خفاء الشخص:

بالرغم من النتائج الإيجابية التي تتمتع بها فكرة خفاء شخص الإمام مثلما لاحظنا آنفاً، لكن النتائج الايجابية شيء مختلف تماماً عن تقييم النظرية ومحاكمة أدلتها ولوازمها:

أولاً- عمدة ما يوافق هذه النظرية هو ظواهر بعض الأخبار ، من قبيل توقيع السمري الذي ورد فيه نفي المشاهدة، وكوصف الإمام بأنّه: لا يُرى جسمه..، أو أنّه: يغيب شخصه. وهذه الثلاثة ليست نصّاً، لإمكان حملها على على الغيبة العنوانيّة كما لا يخفى، سيّما توقيع السمري، إذ هو محمول -بمقتضى ظرف ومناسبة صدوره وهو نعي آخر السفراء-على ادعاء السفارة، والنيابة الخاصّة، وأمّا الآخران فأقل ما يقال فيهما أنّهما مجملان من هذه الناحيّة، ومايرفع هذا الاجمال هو الأحاديث الصريحة في هذا الشأن وستأتي الإشارة لبعضها.

ثانياً- تقع النظريّة في مخالفة واضحة للثقافة والخطاب العام للقضيّة المهدويّة، وبأكثر من وجه، فمنها أنّ المعروف في الروايات وكذا عند علماء الطائفة مذ عصر الغيبة حتى يوم الناس هذا؛ هو دفع اشكاليّة طول العمر بمقاربات طبيعية تذكر بعضاً من أسماء المعمّرين، وتشبيهه في الغيبة، وطول العمر بالأنبياء، فورد مثلاً عن الإمام السجاد(عليه السلام): في القائم منّا سنن من الأنبياء..فأمّا من نوح فطول العمر...وأما من موسى، فالخوف والغيبة وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه.. وفي آخر: في القائم سنّة من نوح، وهو طول العمر!. (كمال الدين،ج1،ص350).

وهكذا من واضحات الثقافة المهدويّة أنّ الظهور في الدنيا وعلى الأرض ليملأها عدلاً وقسطاً..وليس في عالم أو مكان آخر. فضلاً عن ذلك، فإنّ نظريّة اختفاء الجسم لا تنسجم مع الدعاء للإمام بالحفظ من الأعداء، فالمفروض أنّ أعداء الإمام لا يصلون إليه، ولا يرونه فكيف يمكن أن يوقعوا به الحال أنّه يعيش في عالم غير عالمهم؟!

ثالثاً- ثمّ إنّها تخالف مجمل ما جاء من أحاديث صحيحة وصريحة(وليست ظاهرة وحسب)-وهي كثيرة جدّاً- في أنّ غيبة الإمام عنوانيّة طبيعية، كالحديث الصحيح الذي رواه الكليني باسناده عن الصادق(عليه السلام) قال: 

إنّ في صاحب هذا الأمر شبهاً من يوسف (عليه السلام)، قال قلت له: كأنّك تذكره حياته أو غيبته ؟ قال : فقال لي: وما تنكر من ذلك  هذه الأمة أشباه الخنازير، إنّ إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا أسباطاً أولاد الانبياء تاجروا يوسف ، وبايعوه وخاطبوه ، وهم إخوته ، وهو أخوهم ، فلم يعرفوه حتى قال : أنا يوسف وهذا أخي، فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله (عزّ وجلّ) بحجته في وقت من الأوقات، كما فعل بيوسف، إنّ يوسف (عليه السلام) كان إليه مُلك مصر، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً ، فلو أراد أنّ يعلمه لقدر على ذلك، لقد سار يعقوب (عليه السلام) وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الامة أن يفعل الله (عزّ وجلّ) بحجته كما فعل بيوسف: أن يمشي في أسواقهم، ويطأ بسطهم، حتى يأذن الله في ذلك له، كما أذن ليوسف ، قالوا : " أئنّك لأنت يوسف؟ّ قال : أنا يُوسف .(الكافي،ج1،ص337،ح4).

 و الحديث واضح الدلالة على المقصود، بل صريح في المطلوب، ومن أكثر من وجه كما لا يخفى على من تأمله، منها أنّ المقارنة والتشبيه من جهة الغيبة إنّما وقع بين الإمام المهدي وبين يوسف، كما هو الحال في هذا الحديث، أو بينه وبين موسى كما في الحديث السابق،ولم تقارن غيبته بعيسى بن مريم(عليهما السلام)!

 

المرفقات