عن حيرة الإنسان وسط كثرة الأديان!

: السيد علي الحسيني

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }[آل عمران : 85]

          يعرف المتابع أنّي لا أميل للسجع، إنّما انساب معي العنوان هكذا: حيرة الإنسان وسط كثرة الأديان! دون عناية وقصد، فأبقيتُه مثلما هو؛ لأنّه فعلاً يحكي المشكلة التي ينوي المقال معالجتها: أي الاعتراض على ضرورة البحث عن "الدين الحق"، والتساؤل عن مدى إمكانية قيام الإنسان بقابليّته، وعمره المحدودين- من استيعاب دراسة الأديان حول العالم، التي بلغتْ الألآف، ويشير بعضٌ في هذا السياق إلى عشرة آلاف دين!، وتحيلني ذاكرتي هنا إلى قول الشاعر، ولكأنّه يعرب عن لسان حال المعترض:

 ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له، إياك إياك أن تبتلّ بالماء

وربما يسمح قائل البيت لمتطفل على الشعر أن يجري على منواله، ولا أدري إن وافق الشعر ميزاناً، لكنّ عذري أنّي أريد المعنى: ألقاه في الأديان محدوداً وقال له، إياك إياك أن تبتغي غيره!

             وسنرى أنّه طرح أدعى للطريقة الإعلامية منه للعلمية، من حيث التهويل، والتعميّة..، أمّا وقت الجدّ والتدقيق، وعند البحث والتحقيق فسراب بقيعة؛ إذ لا وجود للعدد المذكور إلا كرقم مكتوب، ولا يمكن لأيّ جهة أو مركز إحصاء أن يقوم بشكل واقعي بعرض أسماء أديان عُشر العدد المذكور، بل ولا أقل!، إذا راعى شرطاً واحداً: وهو تحديد مفهوم الدين وتعريفه، ولا يبقيه عائماً  مفتوحاً على كل شيء، لاحظ مثلاً: أنّ قائمة:(Atlas of Global Christianity)، للأديان العشرة الأولى في العالم؛ تضمُّ( الأديان الطبيعية، والأديان الحديثة، والروحانيين...) !، وتضم أيضاً: قوميات، وأجناس، وأعراق، وأماكن توزيع المؤمنين داخل الدين الواحد: سود، عرب...!، وفي إحصائية أخرى وضعت: العلمانيّة واللادينيّة واللاأدريّة والملحدين...ضمن الأديان! تخيّل!، لكن حسنتها -قياساً بغيرها- أنّها أحصت الأديان الرئيسة في العالم (لا يقل عدد المؤمنين بها عن 150 ألف ) التي تمثل ديانة 98% من سكان العالم ، وقالت إن عددها (22) ديانة كبرى، وأمّا  الصغرى فتحتوي( 12) ديناً منهم : جماعة حقوق الحيوان !

         يمكنني أن أضيف عليها إحصائيتي الخاصة، ولِمَ لا؟! فعلها قبلي مبرمج حاسوب أمريكي(بريستون هونتر) وأنشأ موقع: (أتباع – adherents) ضمّنه مركزاً لإحصاء الأديان، وقد اعتبرتُ في الإحصائيّة الدينَ بوصفه تجربة شخصية، من ثمّ يزيد أكثر مما ينقص، فمعلوم أنّ ما تدفعه الأرحام أكثر مما يوارى تحت الأرض، وهكذا أخذ عدد الأديان معي بالتصاعد، حتى بلغ(8) مليار دين تقريباً!!، وقمتُ بالإحصاء مرّة أخرى فتبيّن أنّ ديناً واحدا لا غير، هو الذي يسود الكوكب!، فحتى (اليهودية والمسيحية والإسلام)تعود لأصل مشترك واحد يختصر بـ (الدين الإبراهيمي ) !، والآن لنكن أكثر جديّة !

        ينشأ تقسيم ثنائي _على أساس الوحيانيّة _لجميع الأديان: سماوية إلهية – أرضية بشرية، وتدعى الأخيرة بـ(الوضعيّة) وينضوي تحتها عشرات "الأديان"، يعتنقها مئات الملايين، وتشملها الإحصاءات أكثر من غيرها، مثل: الهندوسية، السيخية، الكونفوشوسية، والبوذيّة وإلخ،  وهكذا جميع الأديان التي لا تؤمن بالإله أو بالحياة الأخرى، و تعتقد التناسخ(عودة الروح بعد موت الجسد إلى الحياة من جديد في جسد حيوان أو إنسان آخر) ،على فوارق وتفاصيل لا تهمنا الآن، إنّما المهم هو اعترافها بالوضعيّة، وأقرارها على نفسها بالبشريّة، وبكلمة أخرى أدق: إنّها  لا تدعي لنفسها احتكار الحق، ولا تزعم امتلاك الحقيقة، ولا تَعِد بالخلاص الأخروي، وهذا مبرّر كافٍ لاستبعادها عن الفحص أصلاً!، ومنشأ الاستبعاد ليس الحكم ببطلانها ليكون  ضرباً من المصادرة، كلا، بل لأنّها تعفي نفسها سلفاً عن أهمّ ما يدفع للبحث عن الدين(النجاة يوم المعاد).

 

 

         ولا يتوهمن أحدٌ أنّ في ذلك دعوة وتغرير لقبول الإدعاءات المحضة، فثمة فرق بين القبول وبين الفحص، فالأوّل أثر للحجة والبرهان، فيما الثاني(الفحص) يلزم -فيما يلزم -ولو على محض الادعاء،  بل أحياناً، وعلى نحو الموجبة الجزئية: يُرتّب الأثر عليه، ولو جاء مجرّداً...يحكى مثلاً: إنّ الكاتب الأمريكي مارك توين (ت:1910م) أرسل للسياسيين في أمريكا ليلاً (ادعاءً) نصّه: "أهرب لقد اكتشفوا أمرنا"، وعرف -في صباح اليوم التالي- هروب الجميع !

           نخلص إذن، إلى شرط أساس في الدين (قيد البحث): أنّ ينطوي على دعوى انحصار طريق الهداية وسيل النجاة الأُخروي به، وإلا فما شأني ـ وأنا في طور البحث عن السعادة الأخروية ـ بأديانٍ لا تؤمن بها أو لا تضمنها أو لا تقول عنها شيئاً أصلاً؟!، ومقتضى هذا الشرط: خروج الأديان البشريّة، وبقاء الإلهيّة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، والمجوسيّة على قول!، وثمة شرط آخر: أن يكون الدين معقولاً غير متناقض، لا داخلياً ولا مع مسلّمات العقل وبديهياته، خذ عقيدة التثليث في المسيحية (التأريخية) تحديداً مثالاً على التناقض الداخلي، كذا التجسيم أنموذجاً لمناقضة حكم العقل القاضي بتركّب كلّ جسم، واحتياجه وهكذا.

            ومما يلزم التأكيد أيضاً: أنّ ما يُطلب النظر فيه ليس كل شيء في الدين، بل الأصول الكبرى وأمهات المعارف والأسئلة الوجودية: أصل الخلق، وجود الله، وحدانيته، الحياة بعد الموت... وهي مسائل محدودة أولاً، وبثبوتها -مبرهناً عليها في دين ما- يثبت بطلان نقضيها ثانياً، طبقاً لقانون : عدم التناقض في الحقائق، فمثلاً: ثبوت وجود الله بالبرهان يغني عن البحث حول حقانية جميع الأديان والمذاهب التي لا تؤمن بالله أصلاً أو التي تساوي بينه وبين الطبيعة، كالبوذية مثلاً ، وكذلك، بثبوت التوحيد والتفريد يُطوى البحث عن الوثنية والتعديد، وهكذا: تُعرف الأمور بضدها...وعملياً، نحن نمارس هذا النمط على نحو تلقائي، فعلى صعيد الفلسفة قد يطّلع أحدهم على أفكار الوجودية فيعجب بها ويتبناها، وهذا التبني يستدعي  –ضمنيّاً-  رفض نقيضها، ولو لم يكن قد اطلع على مناظرة سارتر و جارودي مثلاً،  فضلاً عن أن يدرس الماركسية ومدارسها، وتياراتها...وأنت أعرف بما بين الفلسفتين من تناقض؛ إذ ترفع الوجودية الفرد على المجموع، وعلى النقيض: تقع الماركسيّة. ويجري الأمر نفسه على القطبين المتناقضين في عالم السياسة: اليمين واليسار، فربما راقت لك أهداف اليمين ممثلة بحماية الحرية الفردية على جميع الأصعدة: اجتماعياً، واقتصادياً...هل عليك بعد ذلك: أن تفحص كل التيارات اليسارية وتدرس اتجاهاتها... أو يكفي أن تعرف عنها أنّ أهدافها ومبادئها ضد اليمين، من ثمّ لا تولي الفرد تلك الأهمية؟!

         ولئن حددت المسائل التي يطلب فيها النظر العقلي في الأصول، فلن يعدم دور الوجدان في النظر، ولا تخلو القيم من الأثر، فهذا الفيلسوف الفرنسي جارودي(ت2012م) يفضّل (حادثة الجلفة) على عشر سنوات قضاها في السوربون...مثلما  قال في الحوار أُجري معه: 

       الرصيد الأبرز في حياتي والذي صاغ وجداني وهيأني للدخول إلى الإسلام بدأ يتشكل في الجزائر (معسكر عين أسرار - الجلفة). فلقد عشتُ في بداية الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من نوعها؛ لأنّ قوات الاحتلال الألماني قبضت عل المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية حين سقطت باريس، وصدر الأمر بنقلها إلى معسكر الجلفة وكنتُ أحد أفراد هذه المجموعة، فدعوت رفاقي إلى تمرّد في السجن، وفي مارس من سنة( 1941م) دعوتُ حوالي خمسمائة منهم إلى التظاهر لتأكيد اعتراضنا على السياسة النازية .. وبعد ثلاثة إنذارات من قائد المعسكر .. أصدر أوامره للجنود بإطلاق النار علينا !

 ففوجئنا برفض الجنود ذلك حتى بعد تهديدهم بالسياط .. ولم أفهم للوهلة الأولى سبب رفضهم، ثمّ عرفت أنّ هؤلاء الجنود كانوا من الجزائريين المسلمين، الذين يرون أنّ شرف وأخلاق المحارب المسلم تقتضي ألا يطلق النار على إنسان أعزل، ويضيف: لقد صوّروا لنا المسلم على أنه متوحش همجي، فإذا بي أمام منظومة قيم متكاملة لها اعتبارها لقد علمني هذا الموقف، واستفدت منه أكثر من استفادتي عشر سنوات بالسوربون.(ملاحق المدى: 2012/06/26 ، عن الحياة اللندنيّة)، وأحسبُ أنّ هذا أبرز مقاصد: كونوا دعاة بغير ألسنتكم..أو كونوا دعاة صامتين!.

 

المرفقات