لماذا يتداوى فقهاء الشيعة بالطب ولا يستشفون بـ «التربة الحسينية»؟!

: الشيخ مقداد الربيعي

لماذا يتداوى فقهاء الشيعة بالطب ولا يستشفون بـ «التربة الحسينية»؟!

 

 

ذكر علماء العقيدة من ضمن فوائد النبوة رفد الإنسان الأول بما يحتاجه في شؤون دنياه الضرورية من علوم وصناعات، كما في قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) ([1])، وقوله ايضاً: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ([2]) ومن ذلك علم الطب، فقد ورد عنهم عليهم السلام، انه مما علمه الأنبياء للأممهم، ليدفعوا به عنهم غائلة الأمراض والأوبئة.

 

ضرورة ان تعلم مثل هذه العلوم الدقيقة يحتاج قروناً من التعلم والتجربة، الأمر الذي قد يؤدي الى هلاك البشرية قبل ان تحصل عليه، ويؤيده ما نقله السيد رضي الدين علي بن طاووس (قدس سره) عن بعض الكتب: "إن الله - تبارك وتعالى - أهبط آدم من الجنة، وعرفه علم كل شيء، فكان مما عرفه النجوم والطب"([3]).  من هنا، يمكننا أن نقول: إن بداية علم الطب كانت عن طريق الوحي، ثم زادته تجربة العلماء فاتسع تدريجياً، ويتسع على تواتر الأيام.

 

وبسبب هذا العلم الجم كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يكرر خطابه للناس قائلا: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين جنبي علوما كثيرة كالبحار الزواخر"([4]). وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قاطبة زاخرين بهذا العلم، ولم يتلكؤوا في جواب أي مسألة علمية قط، وقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) في هذا الشأن: "إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب"([5]). من هنا، لا ريب في أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا ملمين بعلم الطب، وإذا ثبت أنهم قالوا شيئا يتعلق بمسألة من مسائله، فإن كلامهم مطابق للواقع حتما، إلا اننا لابد أولاً من التعرف على ماهية الأحاديث التي يمكن الأخذ فيها في مقام التداوي، فإنها على أقسام ثلاثة:

 

 القسم الأول: الأحاديث التي تمثل معجزة أئمة الدين في علاج الأمراض، كما ورد في القرآن الكريم إذ نقل لنا معجزة عيسى (عليه السلام). قال تعالى: (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) ([6]).

 

القسم الثاني: الأحاديث المأثورة في الوقاية من الأمراض.

 

القسم الثالث: الأحاديث الواردة في علاج الأمراض، وتنقسم إلى قسمين أيضا:

 

الأول: الاستشفاء بواسطة الدواء، اي انهم (عليهم السلام) وصفوا أدوية خاصة للمرضى، كما يفعل الأطباء.

 

الثاني: الاستشفاء بالقرآن والدعاء.

 

أما الأحاديث التي تتناول الإعجاز في الموضوعات الطبية فهي خارجة في الحقيقة عن نطاق بحثنا؛ كونها من قبيل الخوارق المختصة بزمان صدورها، وبوجود شخص المعصوم عليه السلام.

 

وما القسم الثاني، وهي الأحاديث الوقائية، فمما لا اشكال فيه قطعاً، ضرورة انها من قبيل ما يصفه الأطباء ومختصي الأغذية في عصرنا هذا، وأن الالتزام بسلوك غذائي معين يقي الأنسان ويمنع عنه العديد من الأمراض.

 

وأما القسم الأول من أحاديث القسم الثالث، وهي التي وصف بها الأئمة دواء خاصاً، فهي بحكم شيخ المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالصدوق (رحمه الله) مما لا يمكن الركون إليه إلا في حالات خاصة، يقول (رحمه الله): " اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب أنها على وجوه:

 

منها: ما قيل على هواء مكة والمدينة فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية.

 

ومنها: ما أخبر به العالم (عليه السلام) على ما عرف من طبع السائل ولم يتعد موضعه؛ إذ كان أعرف بطبعه منه.

 

ومنها: ما دلسه المخالفون في الكتب لتقبيح صورة المذهب عند الناس.

 

ومنها: ما وقع فيه سهو من ناقله.

 

ومنها: ما حفظ بعضه ونسي بعضه. وما روي في العسل أنه شفاء من كل داء فهو صحيح، ومعناه أنه شفاء من كل داء بارد.

 

وما روي في الاستنجاء بالماء البارد لصاحب البواسير؛ فإن ذلك إذا كان بواسيره من حرارة.

 

وما روي في الباذنجان من الشفاء؛ فإنه في وقت إدراك الرطب لمن يأكل الرطب، دون غيره من سائر الأوقات.

 

وأما أدوية العلل الصحيحة عن الأئمة (عليهم السلام) فهي آيات القرآن وسوره، والأدعية على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القوية والطرق الصحيحة "([7]).  وفي ضوء هذا التقويم يتسنى لنا أن نضع قسما من الأحاديث الطبية في متناول أشخاص معينين ترتبط بهم هذه الأحاديث، ونضرب عن سائر الأحاديث صفحاً. وذهب غير واحد من الفقهاء الى ان المدار في صحة هذه الأحاديث موافقتها لنتائج المختبر، يقول الشيخ محمد الريشهري في موسوعة الاحاديث الطبية: إن التحليل أفضل طريق لتقويم الأحاديث الطبية تقويما دقيقا، والاستهداء بها استهداء تاما، فالتحليل والمختبر في الحقيقة هما أمثل قرينة عقلية لإثبات صحة الأحاديث الطبية وسقمها، ومن حسن الحظ أن إمكانية الإفادة منهما في العصر الحالي متوفرة أكثر من أي وقت آخر([8]).

 

الدعاء أم الطب؟

 

والأحاديث الوحيدة التي يتيسر وضعها في متناول العامة من الناس بحسب تقييم الشيخ الصدوق هي الأحاديث الصحيحة التي تدعو الناس إلى العلاج بواسطة الدعاء والاستشفاء بالآيات القرآنية، ولكن هذا يجرنا الى سؤال مهم: فهل يتنافى ذلك والتطبب عند الطبيب وأخذ العلاج؟

 

بالقطع، لا، ضرورة وجوب التداوي لدفع الضرر او للأوامر الشرعية الصادرة عنهم عليهم السلام، كموثّقة الحسين ابن علوان المروي في قرب الاِسناد عن جعفر عن أبيه عن جابر، قال: قيل يارسول الله أنتداوى؟ قال : نعم ، فتداووا فإن الله لم ينزل داءً إلاّ وقد أنزل له دواء([9]).

 

وربما يتخيّل البعض عدم وجوب التداوي مطلقاً حتى من الاَمراض المهلكة لاستبداله بالدعاء والتوكل، قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُه ) ([10])، وقال تعالى : ( ادْعُونِيَ أسْتَجِبْ لَكُمْ ) ([11]). بل ان البعض تندر وأشكل على علماء الطائفة حين ذهابهم للعلاج وعدم اكتفائهم بتناول التربة الحسينية مثلاً!!

 

ويمكن الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً، أما النقض فإن الإشكال لو تم لم يقتصر على التداوي بل يشمل كلّ أمر متوقّف على أسبابه كالتكسب وتحصيل المعاش، وحتّى تحصيل العلم أيضاً! بل لازم هذا التخيّل عدم وجوب حفظ النفس! وهو كما ترى.

 

وهل يمكن أنْ يفتي عاقل بجواز ترك شرب الماء أو أكل الطعام للمضطّر الذي يشرف على الهلاك؟

 

وأما حلاً فلأنّ التوكّل لا ينافي السعي إلى تحصيل الاَسباب ولا هي تنافيه (وأعقل راحلتك وتوكّل على الله) ([12])، اي حقق السبب الطبيعي ومن ثم توكل على الله، والدعاء لم يشرّع لإبطال الاَسباب الطبيعية قطعاً ، والاَئمة عليهم السلام تداووا وأمروا أتباعهم بالتداوي كما في الاَحاديث الكثيرة. بل ورد في بعض الاَحاديث ان من يترك أموراً لا يستجاب دعاءه.

 

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): إن نبيا من الأنبياء مرض، فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني. فأوحى الله عز وجل: لا أشفيك حتى تتداوى؛ فإن الشفاء مني([13]).

 

وفي إحياء علوم الدين: ذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى (عليه السلام) اعتل بعلة، فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته.

 

فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرأت. فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، فطالت علته. فقالوا له: إن دواء هذه العلة معروف مجرب، وإنا نتداوى به فنبرأ.

 

فقال: لا أتداوى، وأقامت علته، فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي، لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك.

 

فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك. فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك علي؛ من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟([14]).

 

وتوضيح ذلك: ان الله تبارك وتعالى وبحسب حكمته في تدبير الكون جعله وفق نظام الأسباب، فعن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحسين بن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله انه قال: "ابى الله ان يجري الاشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سببا" ([15])، ولكن هل تختص السببية بالمادة والماديات، هذا ما لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.

 

وعليه فكما ان دواء الطبيب يمكن ان يعالج المرض، كذلك الأدعية وسائر ما ورد عنهم عليهم السلام، فلا ينحصر السبب بالدواء وإن كان هو السبب الطبيعي الذي أمرنا الشارع باتباعه، من هنا فالإنسان الكيس هو من يحوز على أكبر قدر ممكن من الاسباب المؤدية الى النتيجة المطلوبة، فيسعى لتحصيل العلاج من الطبيب الحاذق، كما يدعو الله تبارك وتعالى، ويتوكل عليه.   

 

الهوامش:

 

1- الانبياء: 80.
 
2- البقرة: 151.
 
3- انظر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ج ١، ص ٣٠٦ (الباب العاشر).
 
4- الكافي، ج ١، ص ٢٠٢، ح ١، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج ١، ص ٢٢١، ح ١.
 
5- آل عمران: 49.
 
6- الاعتقادات للصدوق، ص 115، بحار الأنوار، ج 62، ص 74.
 
7- موسوعة الاحاديث الطبية، ج1، ص21.
 
8- وسائل الشيعة: ج17، ص179.
 
9- الطلاق: ٣.
 
10- غافر: ٦٠.
 
11- بحار الأنوار: ج ٧١ ص ،١٣٧.
 
12- مكارم الأخلاق، ج 2، ص 180، ح 2465، بحار الأنوار، ج 81، ص 211، ح 30.
 
13- إحياء علوم الدين، ج 4، ص 413؛ المحجة البيضاء، ج 7، ص 432.
 
14- الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ص487.

 

المرفقات